الإخوان المسلمون في سورية

الأخوة شعار دعوتـنا

محمد أحمد الراشد
التسبيح في دقائق الأسحار الغالية، والتعامل الأخوي الإيماني: ركيزتان متلازمتان تـقوم عليهما الجماعة المسلمة، وعينان نضاختان، تسكبان خيراً للدعاة لا ينضب. إنهما ركيزتان تـقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم، فإذا انهارت واحدة منهما لم تـكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه.

التـقـوى أولاً

وإنما التسبيح عنوان الإيمان وإسلام النـفس لله تعالى، والإيمان عنوان التصور الموزون، وضمانة الثبات أمام مخاطر الطريق.
“ركيزة الإيمان والتـقوى أولاً.. التـقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل.. التـقوى الدائمة اليقظة التي لا تـغـفـل ولا تـفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله: {يا أيها الذين آمنوا اتـقوا الله حقَّ تُـقاتـه}.. اتـقوا الله -كما يحق له أن يُتـقى- وهي هكذا بدون تحديد تدع القـلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدت له أشواق. وكلما اقترب بتـقواه من الله، تيقّظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ وإلى مرتبة وراء ما ارتـقى، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
{ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون} والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه، فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً. وذكر الإسلام بعد التـقوى يشي بمعناه الواسع: الاستسلام. الاستسلام لله، طاعة له، واتباعاً لمنهجه، واحتكاماً إلى كتابه. وهو المعنى الذي تـقرره سورة آل عمران كلها في كل موضع منها.
هذه هي الركيزة الأولى التي تـقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دروها، إذ إنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمّع تجمّعاً جاهلياً، ولا يكون هناك منهج الله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية، ولا تـكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية”.
“لا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكـفي، فقـد يعمّ الفساد حتى تضطرب الموازين وتختـل، ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير والشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر، يستـند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
وهذا ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه، وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تـنبثق القواعد الأخلاقية، ومن الباعث على إرضاء الله وتوقّي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد، ومن سلطان شريعته في المجتمع تـقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك. ثم لا بد من الإيمان أيضاً ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، و يحتملوا تكاليفه، وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثـقـل المطامع… وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان، وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد، وكل عدة سوى عدة الايمان تـفل، و كل سند غير سند الله ينهار”.
ويحدثنا إقبال عما فعله هذا الإيمان من توحيد التصور الذي انتبه إليه سيد قطب فيقول:
وُحِّد الرئي لنا والفكرة
كسهَام جمعتها جعبة
نحن فكر و خيال واحد
ورجاء و مآل واحد
فهذا أقصى ما يكون من الاتحاد، بأدنى ما يكون من الوسائل، فالرؤية واحدة، والفكر والخيال واحد، والرجاء واحد، والمصير واحد، كل ذلك يعطيه الإيمان، وما أسهل تـناوش من ملك القلب لهذا الإيمان البسيط، ذي الأعطيات الثمينة.

و نـثـنـي بالأخوة..

“أما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله على منهج الله، لتحقيق منهج الله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تـفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً , وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}..
فهي أخوة إذن تـنبثق من التـقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله -أي عهده ونهجه ودينه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، وعلى أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتنّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً”
“وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى – في المدينة – على هاتين الركيزتين.. على الإيمان بالله: ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله سبحانه , وتمثل صفاته في الضمائر، وتـقواه ومراقبته، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال. ولى الحب: الحب الفياض الرائق. والود: الود العذب الجميل. والتكافل: التكافل الجاد العميق.. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً، لولا أنه وقع، لعُدّ من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان!
وعلى مثـل ذلك الإيمان، ومثـل هذه الأخوة، يـقوم منهج الله في الأرض في كل زمان.
ومن هنا كانت هذه العودة إلى محاولة تأكيد معنى الأخوة كجزء من إحياء فـقه الدعوة، فإن الأخوة شرعية دعوتـنا وشعارها واسمها، وميثاقها الذي واثـقتـنا به، وكتابها الذي كتبته على نفسها، وما زالت تأتي دعوتـنا المباركة بصائر جديدة من تجاربها المتكررة تسرع بها إلى ابتغاء كل وسيلة إلى هذه الفضائل وتجميع أنصارها إلى الله على التحابب، والتكافل، والتسامح، ومكملات هذه الرواسي الشامخات، وكمالها أن ترى من بعد وحدة الرؤية والفكر والخيال والرجاء والمصير: وحدة القلب والروح، بل ووحدة اللفظ أيضاً، فلا تكون هناك إلا صيحات واحدة، بحروف متـقاربة، تعبر عن مفهوم واحد، كما أراد إقبال حين يقول:
نحن من نعمائه حلف إخاء
قلبنا والروح واللفظ سواء
فلم يقنع بوحدة القـلب، حتى توحدت الألفاظ.

عـقـد الأخـوة

ويظل هذا الاتحاد يتـنامى حتى يكون عقداً واجب الوفاء، فقد تكلم ابن تيمية عن (عـقـد الأخوة) هذا وبيّن أن الحقوق التي ينشؤها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه لكل مؤمن على المؤمنين فإنما هي: “حقوق واجبة بنفس الإيمان، والتـزامها بمنزلة التـزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابته لكل مؤمن على كل مؤمن وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة “.
فيأتي العقد يؤكدها إذن، ولم يحصل خلاف إلا في التوارث عند عدم وجود القرابة، كما كان الأنصار والمهاجرون يتوارثون بالتآخي الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أول مقدمه المدينة، فقد قال أكثر الفقهاء بنسخ ذلك، وأجازه أبو حنيفة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
إن هذا العقد الأخوي يزيد الواجب الإيماني ثبوتاً، وما نراه إلا كبيعة سلمة بن الأكوع الثانية رضي الله عنه تؤكد بيعته الأولى حين كانتا في ساعة واحدة يوم الحديبية تحت الشجرة، كما جاء عنه في صحيح البخاري في قوله: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال لي: يا سلمة : ألا تبايع؟ قلت: يا رسول الله قد بايعت في الأول. قال: وفي الثاني)، فكذلك المسلمون: أوجب الإسلام على بعضهم البعض حقوقاً، ويتبايعون بعقد أخوة في الثاني، زيادة خير، وابتغاء توثق، وعنصر تذكير، لتـنشأ الجماعة المؤتـلفة المتماسكة المستحكمة التي وصفها إقبال –رحمه الله– في رموزه حين يقول:
كل فرد بأخيه ائتلفا
مثل در في سموط ألفا
لفهم في عيشهم معترك
كل فرد بأخيه ممسك
من جذاب تتوالى الأنجم
كوكب من كوكب مستحكم
وهكذا، فإنه ليس من عمل للداعية المسلم اليوم أثمن من غدوة يهب فيها لدعوته -بفضل الله- ناشئاً يغمس نفسه فيؤزره، فيستغلظ، فيستوي على عـقـد الأخوة، يعجب الدعاة، و يغيظ به الكفار.

مـيـزان التـصاحـب

وهكذا تكون الأخوة بين الدعاة هي الركن المهم في تربيتـنا بعد الصلاة والتسبيح، وما من جزء من أجزاء الحركة الإسلامية يقذف بنـفسه في ميدان العمل العام قبل إحلال معاني الأخوة الإيمانية في أعضائه إلا ذاق وبال تساهله وتـفريطه، ولا مناص من أن تَدرج بدايته على طرق الإيمان واستغلال دقائق الليل الغالية، ويكون فيه (أدب الأخوة) مترجماً في تـناصح وتكافل وتحابب يجمع القلوب ويعلمها التحالم -إن لم يكن الحلم- عند إبطاء المقصر وتجاوز الملحاح، مثلما يعلمها المكافأة والوفاء والشكر عند إسراع المبادر وعدل خفيض الجناح.
لقد أحب الإمام البنا هذا الأدب للدعاة، ووضع له منهجاً بحيث “يرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات”، ورأى رحمه الله من تآخي الرعيل الأول ما أقـر عينه حياً، وبرهان وفاء محبيه من بعده أن يكونوا دوماً عند محاسن هذا الأدب، وأن يفيئوا إليه عند أول انتباهه إذا أنستهم الغفلات.
إنها نعمة الأخوة.
يجعلها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام فيقول: (ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به).
ويسميها التابعي مالك بن دينار: روح الدنيا، فيقول: (لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان، والتهجد بالقرآن، وبيت خال يذكر الله فيه). و يحكر لها الشاعر صفة الذخيرة، فيقول:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة
و لكن إخوان الثقات الذخائر
ولهذا كثرت توصية السلف بإتـقان انتـقاء الأخ الصاحب، لتصاب الذخيرة الحقة، والروح الحقة، فكان من وصايا الحسن البصري سيد التابعين: (إن لك من خليلك نصيباً، وأن لك نصيباً من ذكر من أحببت، فتـنـقوا الإخوان و الأصحاب والمجالس).
فأما أولاً: فقد عمموا صفة الخيرية بإطلاق تحكم الانتـقاء، وعبروا عن ذلك بقولهم:
أنت في الناس تـقاس
بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو
وتـنل ذكراً جميلاً
ثم خصصوا ففسروا الخير بالتقوى، وقالوا:
نافس، إذا نافست في حكمة
آخ، إذا آخيت، أهل التـقى
ما خير من لا يرتجى نفعه
يوماً، ولا يؤمن منه الأذى
ثم زادوا و ذهبوا أبعد، فعددوا صفاتهم، يعينونك على دقة الاختيار.
أعلى صفاتهم : طيب القول، ذكرها عمر رضي الله عنه فقال: “لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبيني لله في التراب، أو أجالس قوماً يلتـقطون طيب القول كما يلتـقط طيب الثمر، لأحببت أن أكون لحقت بالله”.
ومن صفاتهم: أن أحدهم: (يرفع عنك ثـقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مئونة التحفظ. وكان جعفر بن محمد الصادق -رضي الله عنهما- يقول: أثـقل اخواني علي: من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي).
ومن صفاتهم: ترك حضيض الدينار والدرهم، والسمو إلى العلا، وضربوا لذلك الإمام أحمد بن حنبل في انتـقائه الأصحاب مثلاً، وذلك حين يقول الذي يطريه:
و يحسن في ذات الإله إذا رأى
مضيماً لأهل الحق لا يسأم البلا
وإخوانه الأدنون كل موفق
بصير بأمر الله يسمو إلى العلا
ومن صفاتهم: مذاكرة الآخرة، كما قال الحسن البصري: ” إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة”.
و من صفاتهم الإيثار، وهو أحد أركان بيعة الشاعر صالح حياوي لهم حين يقول:
أبداً أظل مع التـقاة، مع الدعاة العاملين
الناشرين لواء أحمد عالياً في العالمين
المنصفين المؤثرين على النفوس الآخرين
معهم أظل، مع التـقاة، مع الدعاة المسلمين
ومن صفاتهم : بذل النصح، فأحدهم: (صالح يعاونـك في دين الله، و ينصحك في الله).

آفـات الـمـجـالس

وهذا الانغماس يؤدي إلى الاجتماع والمجالسة بالتالي، ولذلك وجب التعرف على سيماء المجالسة النافعة، والابتعاد عن بعض المعايب التي تـلحقها.
ويجمع ذلك: تحري النفع في الدين فإنها الكلمة الجامعة المانعة، والمادة الموجزة في قانون التآخي، يضعها زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، فيقول: ” إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه”.
فشأن كل داعية ناشئ أن يرتاد لنـفسه المجالس التي يزيد فيها إيمانه وعلمه، وأن يقصد المجالس التي تـنفع دينه، ولا يعرف مجالس اللغـو و اللهـو وقتـل الـفراغ.
وشرح ذلك إقبال بشطر حاسم، يريد لنا أن لا نطيل القول بعده، فقال يدعو الله عز و جل :
هب نجيّا يا ولي النعمةِ
محرماً يدرك ما في فطرتي
هب نجيا لقِنا ذا جنة
ليس بالدنيا له من صلة
فهذا جماع القول:
إن صاحب الداعية المسلم: داعية آخر ليس بالدنيا له من صلة.
صلته بالآخرة، و شوقه إلى الجنة.
بينه و بين الدنيا انقطاع و جفاء.
إن تحريت عنه: وجدته.
إنه هو صاحبك.
آخه، وأحببه، واصحبه، وأعطه مثـل الذي يعطيك، وإلا فإنك أنت العاجز، فإنه كان يقال:
(أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان, و أعجز منه من ضيع من ظفر بهم).
فاطلب الإخوان، نرفع عنك صفة العجز. ولابن القيم كلام موجز شامل في ذلك، يدل على تجربة داعية من أهل الوعي، شخص فيه أخطار المجالس فقال: ” الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القـلب و يضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهذا من أعظم الغنيمة و أنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
أحدها: تـزين بعضهم لبعض.
الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة : أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود”.
والذي يؤسف له أن مخاوف ابن القيم هذه تحولت إلى واقع تحياه بعض مجالس الدعاة الحالية، ووجد التـزين وسيلة ليظهر فينا، وزادت الخلطة بين الدعاة عن مقدارها الذي تحتاجه الدعوة، وتحولت إلى شبه بطالة وشهوة تلهي عن مقصود تجمعنا في متابعة العمل مع الناشئة والجدد، وفي الانطلاق خلال المجتمع العام لتبليغه كلمة الإسلام.
والمرء يعجب من صغيرة غيره!
ولو أن عادتَي التـزين والبطالة تـقفان عند حدهما لعولج أمرهما بمجرد استـنهاض وتذكير خفيفين، ولكن هاتين الآفتين تتعديان في آثارهما، ويتولد عن اجتماعهما خلق الضيق عن العـفـو، بينما يشير استـقـراء الحياة الجماعية إلى ضرورة خلق التسامح والمرونة لمن يحياها.
وقد يظن البعض أن مثـل هذا الكلام أقرب إلى مواعظ العامة منه إلى بحوث فقه الدعوة، ولكن من يعاني إدارة العمل اليومي للدعوة الإسلامية يدرك ضرورته، و يعرف كم من الترف، بل الخطر، يكمن فيمن يتعالى عن مثل هذه المواعظ ليهمس بمعاني فنون التخطيط والعمل السياسي في آذان من تضيق صدور بعضهم عن معاني التسامح والعفو عن صاحب الزلة والخطأ، ولا بد من اقتران التوعية العملية للداعية المسلم بالتربية الخلقية الإيمانية، ولا بد من سيرهما معاً.
وهذا هو مصدر إصرار الأقدمين و المعاصرين على التوصية بسعة الصدر، والتحابب الأخوي.
يقدمهم الفضل بن عياض فيقول: “من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ” فضع في حسابك عندما تعقد (عـقـد الأخوة) أن من تتعاقد معه غير معصوم.
ويأخذ الشعراء دورهم في التوصية، فيقول مشرقوهم :
لا لوم في خطأ ولا تثريبا
و يقول مغربوهم:
سامح أخاك إذا أتاك بِزلَّة
ويقول ثالثهم:
إذا ما بدت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالاً لزلتـه عذراً
أحب الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه
كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى
ولا مانع خيراً، ولا قائل هجرا
ولكن كم أرتـنا الأيام من قال هجرا، وتراه إذا ما دعوته إلى اللين يعبس ويبسر، ويذهب مغاضباً، كأنما تدعوه إلى شيء نكر، وإنما هي سذاجة نـفسه نريد أن نقيه إياها، وإنما هو تربص العدو نريد أن نبعده عنه، بما عرفنا عن عدونا من قعوده للدعاة صراط أخوتهم المستـقيم.
وهاؤم تـفحصوا تاريخنا، كم من منتصر لنفسه استعجل فخاصم، فما استطاع من قيام وما كان منتصراً، ولفتـه دوامة العيش المعقد فضاع في خِضَمّها منسياً، يأكل و يشرب، و ليس له من بعد ذلك نوع وجود.
إن جموع هؤلاء المغاضبين إنما تأخرت وضاعت في تيار الدنيويات بما كانت بموازين الأخوة تخل، ولو أنهم استـقاموا على الطريقة الأولى وراغوا إلى فقه الأخوة الموروث، لما مسّهم اللغوب و الضياع.
إن الفقه الذي ورثـناه عن التابعي بكر بن عبد الله المزني ينص على أنك: “إذا وجدت من إخوانك جفاء فذلك لذنب أحدثـتَه، فتب إلى الله تعالى، وإذا وجدت منهم زيادة محبة فذلك لطاعة أحدثـتها فاشكر الله تعالى”.
فاتهم نفسك إذا عوملت بجفاء أو رأيت نوع تـقصير في حقـك الذي تظنه قبل أن تبادر بالهجوم.
إن هذه النصوص القديمة من فقه الأخوة الإيمانية، يصوغها عبد الوهاب عزام في العصر الحديث في بيتين جامعين من مثانيه ويقول:
في فؤادي بحران : ملحٌ وعذب
وبه صرصر وريح رخاء
فهو مُرّ على البغاة عصوف
وهو عذب لصاحبي و صفاء
فأنت مطالب أيها الداعية المسلم أن تملأ قلبك من مشاعر الأخوة في الله لإخوان العقيدة بقدر ما يجب أن تضع فيه من مقت أهل الباطل البغاة.

من كتاب “الرقائق” للأستاذ محمد أحمد الراشد

محرر الموقع