الإخوان المسلمون في سورية

دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (4)

 

الدُّرَّةُ الرابعة: التثبّت في تلقّي الأخبار وروايتها

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)). (الحجرات:6و7و8).
1- يوجّه الله عزّ وجلّ خطابه إلى المؤمنين الصادقين، بأن يتبيّنوا الحقيقة ويتحرّوا الحق، ويتثبّتوا من كل خبرٍ هامٍ يصل إلى مسامعهم، لاسيما إذا كانت تترتّب على تصديقه أضرار للناس، أو إذا نَقَلَهُ فاجر خارج عن حدود الله لا يبالي بالكذب على الله وعلى الناس!.. والله عزّ وجلّ يقول للمؤمنين الصادقين الطاهرين: لا تتعجّلوا بالحكم واتخاذ المواقف، حتى تنضجَ لديكم الحقيقة، خشية أن تُلحِقوا الأذى والضرر بغيركم من الناس، من غير أن يستحقّوه، وأنتم تجهلون ذلك الحق نتيجة تسرّعكم، فتندمون على خطئكم، ويصيبكم لذلك الهمّ والغمّ، متمنّين عدم وقوعكم بذلك الخطأ الظالم الفادح.
لنلاحظ أن كلمة (فاسق) و(نبأ).. قد وردتا في الآية الكريمة بهذا الشكل غير مُعَرَّفتَيْن، بل على شكل تنكير.. وذلك يدل على أنّ الله عزّ وجلّ لم يُحدّد فاسقاً مُعيَّناً.. ولا نبأً مُعيَّناً.. بل ورد اللفظ ليشمل أي فاسقٍ وأي نبأٍ، وفي أي زمانٍ ومكان.. فالحكم شامل كامل متكامل، ولكل الناس والأنباء والأزمنة والأمكنة.. إلى يوم القيامة!..
2- يستمرّ الله عزّ وجلّ في توجيه خطابه إلى المؤمنين الصادقين بقوله: اعلموا أنّ بينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقولوا باطلاً، لأنّ الله سبحانه وتعالى سيُخبره بالحقيقة.. وهو أعلم بمصالحكم منكم، فلا ((تُقدِّموا بين يديه)) بالقول والتصرّف والتسرّع في اتخاذ الأحكام وقبول الأخبار، من غير تبيُّنٍ وتثبُّت!.. ولو أطاعكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من الأخبار التي تُنقَل إليكم وتُشيرون عليه بشأنها.. لوقعتم في المشقّة والإثم والمصائب والمتاعب.. لكنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك قبل التثبّت التام واستيضاح الأمور بشكلٍ كاملٍ بلا تأويلٍ أو لَبْس.
لنلاحظ هنا أيضاً كلمة ((يُطيعُكُم))، فهي لفظ يفيد المستقبل والحاضر، وذلك للدلالة على الاستمرار في التحقّق والتثبّت من الأخبار والأنباء، فلم يقل: (أطاعكم)، أي في الماضي وانتهى الأمر.. لا!..
ولنلاحظ قوله عزّ وجلّ: ((في كثيرٍ من الأمرِ))، لنكتشف مدى المراعاة التي يراعي الله عزّ وجلّ فيها عبادَه المخلصين المؤمنين، إذ لم ينسب الخطأ إلى جميع أعمالهم وآرائهم، بل إلى بعضها.. وفي الوقت نفسه، هي إشارة إلى صواب الرأي لدى بعضهم، في التريّث والتبيّن والتحقّق من الأنباء!..
3- ثم يأتي الاستدراك في قول الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين الذين لم يقعوا في خطأ التسرّع بقبول الأنباء: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ..))، فالله عزّ وجلّ جعل الإيمان أحب شيءٍ إلى المؤمنين الصادقين، وحَسَّنه في نفوسهم بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبهم.. وكَرَّهَ إليهم الجحود والكفر والفسوق (انتهاك حُرُمات الله والدين والشرع) والعصيان (المخالفة والتقصير في الطاعة).. فهؤلاء هم المؤمنون المستقيمون على الحق الثابتون عليه.. وهنا نلمس تماماً من سلوك هؤلاء المؤمنين الأطهار.. نلمس كيف أنهم ملتزمون بأوامر الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وملتزمون بدينه وبمنهج الإسلام العظيم.. وهم بذلك لا (يتقدّمون بين يدي الله ورسوله)، وهنا يتجلى الربط الوثيق لهذه الآيات.. بمطلع السورة الكريمة في الآية الأولى!..
لنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (حبّبَ)، (زيّنهُ)، (كرَّهَ).. وهي كلمات جاءت بلفظٍ يدل على أنّ ذلك كله كان تفضّلاً منه عزّ وجلّ على المؤمنين، وإنعاماً منه سبحانه وتعالى عليهم، وليس بجهودهم فحسب.. فحُب الإيمان وكُره الفسوق والكفر والعصيان.. هي نعمة من نِعَمِ الله عزّ وجلّ على الإنسان المؤمن، لا يمكن تحصيلها من غير تَفَضُّل الله عليه بها!..
4- إنّ الإيمان في أعماق القلوب، والثبات على طريق الحق، وتحبيب هذا الإيمان إلى القلوب المؤمنة، وتحسينه في الأرواح الطاهرة، وجَعْل الكفر والفسوق والعصيان من الأمور التي تكرهها هذه القلوب والنفوس المؤمنة الصادقة.. ذلك كله.. نعم كلّه، هو فضل من الله عزّ وجلّ، ونعمة عظيمة لا تعدلها نعمة أخرى على وجه الأرض، فالله جلّ وعلا يعلم ولا تعلمون، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة الطبيعية التي يجب أن تكون عليها.. فهو عليم بها، حكيم يضعها في المكان الذي يجب أن تكونَ فيه!.. لذلك لنردّد في أدعيتنا وابتهالاتنا وتضرّعنا إلى الله عزّ وجلّ دائماً وباستمرارٍ: (اللهم يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرِّفَ القلوب صرِّف قلبي على طاعتك).. لأنّ القلوب تتقلّب بين يدي الرحمن ويُصرّفها كيف يشاء!..

لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآيات الكريمة

1- وجوب التثبّت من أي خبرٍ، وعدم التسرّع في تصديق الأنباء، أو البناء عليها من مواقف.. وبخاصةٍ تلك التي تترتب عليها آثار خطيرة لا يمكن تداركها بعد وقوعها!..
قارنوا بين منهج الإسلام وتعاليمه وعدله، والمناهج الظالمة الباغية الأخرى.. بين أخلاق المسلمين المؤمنين، وأخلاق غيرهم من الغربيين وأبناء الصهيونية والطّغاة وأصحاب الأهواء الفاسدة.. الذين دمّروا العالم ودمّروا العلاقات بين الأمم والبشر، نزولاً عند أهوائهم وما تمليه عليه مناهجهم وأخلاقهم الفاسدة الوضيعة.. فأميركة دمّرت العراق وأفغانستان.. بناءً على معلوماتٍ يعترفون بأنفسهم الآن، أنها كانت مُزيّفةً خاطئة.. فوقع نتيجة ذلك السلوك الشاذّ الساديّ غير الأخلاقيّ.. وقع مئات الآلاف من القتلى والجرحى.. والملايين من المشرّدين.. ودمّروا بَلَدَيْن مُسلِمَيْن بشكلٍ كامل، وفي العراق دمّروا كل مقوّمات الدولة فيه، ونهبوا ثرواته.. وشرّدوا شعبه.. وقهروا أبناءه.. وكل ذلك تحت عنوان: (تحقيق الديمقراطية)!..، وتدمير أسلحة التدمير الشامل! غير الموجودة إلا في عقولهم المريضة، وبزعم تخليص الشعب من الظلم، الذي مارسوا عوضاً عنه ظلماً أشد وأنكى!.. هذه أخلاقهم.. وهذه مناهجهم الوضعية.. وهذه شريعتهم الظالمة الباغية.. بينما تلك مناهجنا.. وشريعتنا.. وأخلاقنا.. وديننا، فأين الثرى من الثريا؟!.. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))!.. نعم، هذا هو إسلامنا، وهذه هي أخلاقنا المستمَدَّة من إسلامنا العظيم.. وتلك هي شريعتهم الحمقاء الباغية الحاقدة الإجرامية السادية.. وقد ارتكبوا كل ما ارتكبوه دون أن يرفّ لهم جفن أو تؤنّبهم بقايا ضميرٍ إنسانيّ.. فيا ويحهم كم سيكون سقوطهم وسقوط منهجهم وحضارتهم وإمبراطوريتهم.. مُدَوِّياً مـُجَلجِلاً بإذن الله جبار السماوات والأرض!..
2- على المسلم المؤمن أن يرتقيَ في سلوكه إلى درجةٍ يكون فيها موضع ثقةٍ تامةٍ في نقل الأخبار وتمحيصها.. أما الفاسق فيجب أن يكون موضع شكٍ دائماً حتى يثبت خبره الذي ينقله.. لأنه لا يتحرّى الصدق، بل يتعمّد الكذب ولا يتجنّبه!.. ولننظر إلى الأنباء التي تنقلها وكالات الأنباء والفضائيات الغربية والأميركية واليهودية والأذناب من الناطقين بالعربية.. لنرى كم هؤلاء أفّاكون مجرمون كذّابون.. يكذبون على رؤوس الأشهاد دون كللٍ أو مللٍ أو حياء، ليشنّوا أبشع حملةٍ وأقذر حربٍ نفسيةٍ على المسلمين!..
3- على المسلم أن يقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان حكيماً عاقلاً واعياً تجاه الأنباء، يتثبّت منها قبل تصديقها أو اتخاذه الموقف منها.. ولا يتأثر بها قبل التحقّق والدراسة الواعية المستفيضة.. ولا يأخذ أحداً بالظنّة، ولا يعاقِب أحداً على التهمة حتى تثبت بالأدلّة القاطعة!..
4- الإيمان من أعظم النِعَمِ التي أنعمها الله عزّ وجلّ على المؤمن، وعلى مَن يريد من عباده.. ومن آثار الإيمان الحق: كُره الكفر والفسوق والعصيان.. ومراقبة النفس باستمرار، لتبقى على الصراط المستقيم، بعيدةً عن كل ما يتناقض مع أصول الإيمان وأركانه.. فهل نفعل يا قومنا؟!.. هل نفعل؟!..
*     *     *
– من أهم المراجع:
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن)، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

د. محمد بسام يوسف