الإخوان المسلمون في سورية

دُرَرٌ عُظْمَيَات، من سورة الحُجُرات (6)

 

الدُّرَّةُ السادسة: أخلاقُ المؤمنين:

[أ- لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ.. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ.. وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ..]
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (الحجرات: 11).
* * *
لنتدبّر في تفسير الآية الكريمة
1- لقد ذكرنا في الدُّرَّة الرابعة، أنّ الله عزّ وجلّ أمرنا بالتثبّت من صحة الأنباء والأخبار، وأنّ مخالفة هذا الأمر قد يجرّ إلينا الفتن والشرور والتخاصم.. وربما الاقتتال.. وهذا يستوجب الإصلاح بين المسلمين المتخاصمين، وهو حق من حقوق الأخوّة في الله عزّ وجلّ.
بعد ذلك تأتي الآيتان 11 و12 لتخاطبا المؤمنين، آمرةً إياهم بعدم ارتكاب أفعالٍ ذميمةٍ خطيرةٍ في علاقاتهم الاجتماعية، لما لذلك من عواقب وخيمةٍ على الفرد والمجتمع.. والهدف دائماً هو: المحافظة على الأخلاق الحميدة الراقية، التي تُعتَبَر دليلاً على قوّة إيمان المؤمن، كما تؤكّد حقوقَ الأخوّة الإيمانية، التي هي في الحقيقة مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام، وتكليف ربانيّ، يضع المسلم أمام مسئوليةٍ عظيمةٍ تجاه الله عزّ وجلّ.
2- ((لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ..))..
النداء موجَّه إلى المسلمين المؤمنين، بالنهي عن السخرية التي يُقصَد منها احتقار المؤمنين أو النيل منهم، أو الاستهزاء القبيح بهم للتقليل من مكانتهم.. سواء أكان ذلك بين الرجال أم بين النساء.. لأنّ التحقير أو السخرية السيئة عاقبتهما وخيمة على صعيد العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، إذ يصبح هذا السلوك سبباً لشرخٍ في هذه العلاقة الراقية بين المسلمين.. العلاقة التي يجب أن تكون على أفضل صورة، لأنهم إخوة، ولابد أن يحفظوا حقوق الأخوّة فيما بينهم على أرقى حال.. وربما (عسى) يكون الساخر عند الله عزّ وجلّ.. أقل شأناً من الذي يسخر منه، لأن ميزان الله سبحانه يختلف عن موازين البشر في التقويم: فليس من الضرورة مثلاً، أن يكون القويّ أفضل عند الله من الضعيف.. وكذلك ليست المرأة الجميلة أعلى مرتبةً عند الله بالضرورة من المرأة غير الجميلة.. وهكذا.. عدا عن أنّ الأمور وسَيْرها في هذه الدنيا، هي بيد الله عزّ وجلّ وحده، وقد تنقلب هذه الأمور مع الأيام، فيصبح العزيزُ حقيراً.. والحقيرُ عزيزاً (وتلكَ الأيامُ نُداولها بينَ الناس).
لنلاحظ هنا، أنّ كلمة (عسى) تكرّرت، لتقوية النهي وللتأكيد عليه.
كما لنلاحظ عبارة: ((ولا نساءٌ من نساءٍ))، فهي دلالة على أنّ الله عزّ وجلّ خصّ النساء بالذكر إلى جانب الرجال (قومٌ من قومٍ) لأهمية الأمر، ولإمكانية شيوعه بينهنّ أيضاً.. فالخطاب الشرعيّ يشمل تكليف النساء والرجال معاً.
3- ((وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ..))..
لأنّ اللمز يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية أيضاً، التي ينبغي أن تسودَ بين المسلمين، وأن يهيمنَ عليها الودّ ووشائج الـمَحَــبّة.. فالتعيير أو الإعابة يؤديان أيضاً إلى شروخٍ في العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع المسلم.. وهو نوع من أنواع السخرية والتحقير، لكن لا يُراد به (أي باللمز) الإضحاك كما في السخرية، وإنما يُراد به ذِكْر العيوب ولَفْت الأنظار إليها فحسب.
لنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)!.. كيف نلمز أنفسنا؟!.. وهل يمكن للمرء أن يَلمزَ نفسَه؟!.. فالمقصود هنا في هذا التعبير القرآنيّ البليغ، الإشارة المؤثرة إلى أنّ لـَمْزَ الشخص المؤمن الموجَّه لأخيه المؤمن.. هو لمز وتحقير لنفسه أيضاً.. لأنّ المجتمع المسلم الأخويّ، كُلٌ واحدٌ مترابط.. وكرامته واحدة مشتركة!..
4- ((وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ..))..
وهو أيضاً خُلُقٌ يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية، وهو كذلك نوع من أنواع السخرية والاستهزاء الظالم.. فالتنادي بالمكروه من الألقاب، يؤدي أيضاً إلى شروخٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ بين المؤمنين.. ومن حق المؤمن على أخيه ألا يناديه بما يكره من أسماء أو ألقاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَيّر الأسماء الجاهلية لأصحابها، تلك الأسماء التي كانت لا تليق بالمسلم المؤمن وكرامته وعزة نفسه ورفعة قَدْره، وذلك بعد إيمانه وإسلامه.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، يحثّ على أن يُنادَى الإنسان المسلم بأحَبِّ الأسماء إلى قلبه، حرصاً على مشاعره، وزيادةً في الألفة والمودّة والمحبة بين المسلمين.
5- ((بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ..))..
ثم يأتي تحذير الله عزّ وجلّ للمؤمنين، من ارتكابهم تلك الأعمال القبيحة، أو التحلّي بتلك الأخلاق الذميمة، ليُظهِرَ لنا سبحانه وتعالى، أنّ السخرية واللمز والتنابز بالألقاب.. من الخصال التي تُخرِجُ مرتكِبَها عن الإيمان.. تخرجه عن حدود الله عزّ وجلّ إلى الفسوق والمعصية!.. فبئست هذه الحالة، وبئس هذا الصيت، وهذا السلوك الذي يمكن أن يحلَّ محلَّ الإيمان ومقتضياته!..
ثم يدعو الله عزّ وجلّ كل مَن اقترف أو يقترف تلك الأفعال القبيحة.. إلى أن يتوب توبةً نصوحاً إليه سبحانه وتعالى، لأن الاستمرار في التحلّي بتلك الخصال الذميمة التي تفتك بالعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وعدم التوبة عن ارتكابها.. سيوقع المؤمن في الظلم، لأنه بذلك يظلم نفسه، ويظلم إخوانه المؤمنين الذين يرتكِب بحقهم تلك التصرّفات والأفعال الشنيعة غير المحمودة.
* * *
لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من الآية الكريمة
1- تحريم.. نعم تحريم السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وتحريم احتقارهم ومناداتهم بالألقاب القبيحة، لما يسبّبه ذلك من العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة بينهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (لا تُعَيِّر أخاكَ بما فيه، فيعافيهِ الله ويبتليك) (رواه الترمذي والطبراني).
2- على كلٍ منا -نحن المسلمين- أن يحرصَ حرصاً شديداً على سمعته العطرة بين الناس، وعلى حُسْنِ ذكره وصِيته بين أبناء المجتمع.
3- على مَن يقترف تلك الأفعال القبيحة بحق إخوانه المؤمنين، من سخريةٍ وتحقيرٍ ولمزٍ وتنابزٍ بالألقاب.. أن يتوبَ توبةً نصوحاً إلى الله عزّ وجلّ، وأن يبادرَ إلى الاعتذار لمن أساء إليهم.. وإلا فإنه سيُحسَبُ عند الله عزّ وجلّ من الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وإخوانهم المؤمنين، والله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين.. وشروط التوبة الحق كما نعلم ثلاثة: تَرْكُ الذنب والندم على اقترافه، والعزيمة والعهد على عدم العودة إليه، وردّ الحقوق إلى أصحابها.
* * *
[ب- اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.. وَلا تَجَسَّسُوا..]
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا..))
(الحجرات: من الآية 12)
* * *
لنتدبّر في تفسير القسم الأول من الآية الكريمة
1- تتحدّث الآية الكريمة في قسمها الأول، عن أخطر ما يواجه المؤمنين في علاقاتهم، وقد نهت بمجملها عن ثلاث صفاتٍ ذميمةٍ تتناقض مع حقائق الأخوّة الإيمانية: أدناها: الظن السيّئ، الذي يقود إلى التجسّس وهتك الحُرُمات، ومن ثم إلى الغيبة (في القسم الثاني من الآية تالياً)، المؤدية إلى النميمة التي بها تتم إشاعة الفواحش في الذين آمنوا.. وهذا كله سيؤدي إلى: التدابر والتحاسد والتباغض، وإلى استحكام الشرّ بين المؤمنين الذين يجب أن يكونوا إخوةً في الله عزّ وجلّ!..
2- إذن، الآية الكريمة تُشيّد سياجاً آخر في المجتمع المسلم حول حُرُماتِ الأفراد وكرامتهم، وتبدأ بالنداء الحبيب إلى القلوب.. قلوب المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..)، فيأمرهم سبحانه وتعالى باجتناب كثيرٍ من الظن: (.. اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ..)، أي: لاتظنّوا، لأن بعض الظن إثم يستحق العقوبة عليه من الله عزّ وجلّ، والظن هو: أن تتوهّم أو تشك بالسوء بحق أهل الخير والفضل من المؤمنين، لِتُلحِقَ الأذى بهم وبسمعتهم وبأنفسهم.. وإساءة الظن يمكن أن تكون خلال حديثٍ مع الآخرين من الناس، أو خلال حديثٍ مع نفسك، فليس من حقك أن تحدّث نفسك مُسيئاً الظن بأخيكَ المسلم المؤمن.. وذلك قَطعاً لدابر الشيطان الذي يوسوس للإنسان، آمراً إياه بارتكاب المحرّمات.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (ما لم تشاهده بعينك، وما لم تسمعه بأُذُنِك، ثم وقع في قلبكَ، فإنما الشيطانُ يُلقيه إليكَ، فينبغي أن تُكَذِّبَهُ، فإنه أفسقُ الفُسّاق)!..
3- من علامات إساءة الظن بالمؤمن ما يأتي:
أ- تغيّر قلبكَ تجاهه عما كان عليه وعما عَهِدَه أخوكَ المسلم منك.
ب- النفور منه واستثقاله واستثقال الاحتكاك به والحديث معه.
ج- الفتور في إكرامه ومراعاته.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنّ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث) (رواه البخاري ومسلم).
4- الكفّ عن ظن السوء يُطهِّر النفس الإنسانية، ويُلقي بالمودّة والمحبّة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، ليبقى المجتمع المسلم نقياً بريئاً، لا تُعَكِّره الهواجس والظنون.
5- تدعو الآية الكريمة إلى الحذر من سوء الظنّ، باجتناب أكثره، خشيةَ الوقوع في الجزء المحظور المحرَّم منه.. وهناك أنواع من الظن ليست حراماً، لأنّ فيها الاحتياط والسلامة للنفس والعِرض، أو للمال والمتاع.. وهناك أيضاً الظن في استنباط الأحكام الشرعية عندما لا يكون الدليل قاطعاً.. وهكذا..
وسوء الظن بالمسلمين، لاسيما بمن اشتهروا بالتقوى والاستقامة.. حرامٌ شرعاً، وقد قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: (سوء الظنّ لا ينبعث إلا من قلبٍ خبيث).
وإن كان سوء الظن بالمسلمين حراماً.. فإنه على المسلم، ألا يقف مواقف التهمة والشبهة، ولا يُعرّض نفسه للظنون والريب: (رحم الله امرءاً جبَّ الغيبةَ عن نفسه).
6- (.. وَلا تَجَسَّسُوا..)..
قد يكون التجسّس هو الخطوة التالية لسوء الظنّ، وهو العمل أو السلوك الذي يؤدي إلى هتك الأستار، وكشف عورات الناس، والاطلاع على السَّوْءات.. وهذا كله من العمل الدنيء الذي يقاومه القرآن الكريم وشرع الإسلام، حفاظاً على علاقات الأخوّة الإيمانية، التي يجب أن تسودَ المجتمع المسلم.. وحفاظاً على كرامة الإنسان وحرّيته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع:
(إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم.. حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا). (رواه البخاري ومسلم).
فالمجتمع المسلم يجب أن يعيشَ الناسُ فيه آمنين مطمئنّين، على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعوراتهم وأسرارهم.
وهكذا، يُشَيِّد القرآنُ الكريمُ وشرعُ الإسلام العظيم.. سياجاً آخر حول حُرُمات الناس وحقوقهم وحرّياتهم.. فلا تُمَسّ هذه الحقوق، بموجب شرع الإسلام وحكمه.. بأي شكلٍ من الأشكال، وفي أي حالٍ من الأحوال.. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مَن يتّبع عَوْرَةَ أخيه يتّبع اللهُ عَوْرَتَه، ومَن يتّبع اللهُ عَوْرَتَهُ يفضحهُ في جَوْفِ الليل) (رواه أحمد والدارمي).
ويقول الأوزاعي رحمه الله: (ويدخل في التجسّس، الاستماعُ إلى حديث قومٍ وهم له كارهون)!..
7- وهكذا، فالتجسّس على المسلمين، أو على دولة الإسلام ومؤسّساتها، أو على الفئة المسلمة.. لهتك أستارهم وكشف أسرارهم، لصالح العدوّ الظالم المجرم المتربّص.. هو حرامٌ، بل يُعتَبَر من أعظم الجرائم، وهو خيانة عظمى يستحق مرتكبوها أشدّ العقوبات في الدنيا والآخرة.
8- غني عن القول: إن رصد العدوّ وتتبّع أخباره وحركاته ومؤامراته وعيونه وأعوانه.. وكذلك بث العيون في صفوفه واختراقه.. لا يُعتبَر تجسّساً حراماً.. لأنه بقصد دفع الأذى والشرّ والعدوان عن المسلمين وبلادهم وحُرُماتهم ومقدّساتهم.. وقد فعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل دعوته، ضد العدو المتربّص بالمسلمين.
* * *
لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من القسم الأول للآية الكريمة
1- سوء الظن بالمسلمين حرام شرعاً.. لأنه يقود إلى تدمير العلاقات الاجتماعية الوثيقة بينهم، وعلى كلٍ منا أن يراقبَ نفسه ويحاسبَهَا كي لا يقع في هذا المحظور.
2- على المسلم المؤمن ألا يضع نفسه في مواطن الشبهات، وألا يجعل من أعماله وتصرّفاته وسلوكه.. مَدعاةً لسوء الظن به.
3- التجسّس على المسلمين الأبرياء حرامٌ شرعاً بكل أشكاله.. بينما هو واجب وضرورة على العدوّ المتربّص بالمسلمين وأمة الإسلام، وعلى أعوانه وحلفائه والمتواطئين معه.
4- سوء الظن يقود إلى مساوئ وشرورٍ كثيرةٍ بحق المسلمين، كالغيبة والتجسّس والفضول السيّئ والنميمة.. وغير ذلك من الأذى والشرّ.
* * *
– من أهم المراجع:
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن)، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).

د. محمد بسام يوسف