السعيد الخميسي
* تمر الأيام سريعاً يوماً بعد يوم، وتمر الأعوام مر السحاب عاماً بعد عام حتى أوشكنا على الوصول لمحطة النزول، آخر محطة في الحياة الدنيا لنلقى رباً عفواً كريماً. شئنا أم أبينا لا بد من يوم نغادر فيه هذه الحياة بكل تقلباتها ومآسيها وأحزانها وأفراحها. لكن المؤسف والمحزن أن أمتنا هي كما هي في ذيل الأمم والشعوب، مهانة ومذلة ومحتلة ومهزومة ومتخلفة ومتردية سياسياً وصحياً وتعليمياً واقتصادياً. لا تعبأ بنا الأمم ولا يهتم بنا من كانوا يتسولون منا رغيف الخبز يوم أن كنا خير أمة أخرجت للناس. صرنا كالكرام على موائد اللئام، نرفس بالأقدام ونصفع على الوجوه، ونسب بأفظع الألفاظ وذلك لهواننا على أنفسنا فكنا على غيرنا أهون. صارت أوطان أمتنا ملكاً لأعدائنا، يرسمون حدودنا ويحددون إقامتنا، ويكتبون لغتنا، ويفرضون علينا هويتنا، ويغيرون عقيدتنا ويشوهون ديننا على مرأى مسمع من شعوبنا ونخبتنا ومفكرينا وخبرائنا وعليه قومنا، ولا أحد ينبس ببنت شفة. خيم الصمت على الوجوه وخرست الألسنة، وعنت الوجوه، وباليتها عنت للحي القيوم ولكنها عنت لشرذمة قليلة من أعدائنا لن تسمح لأمتنا أن تنهض من كبوتها يوماً ما أو حتى تقف على قدميها وتسعى وتقوم.
* بعد انقضاء عام مضى وقدوم عام جديد لابد من كشف حساب ولحظة عتاب سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي وأعنى الأمة كلها. إن التاجر الرابح يعيد حساباته من حين لآخر ليقف مع نفسه وقفة حساب دقيقة يراجع فيها كل حساباته ما ربح فيها وما خسر. فما بالكم وأمتنا العربية والإسلامية تقف الآن على مفترق طرق وفي طريقها منحنيات والتواءات ومخاطر كثيرة، إننا نعيش لحظة فارقة إما نكون أو لا نكون فيها شيئاً مذكوراً. لابد أن نراجع أنفسنا كأفراد ونحدد بوصلتنا وقبلتنا واتجاهنا. ويجب على الأمة بساستها وزعمائها وحكامها وملوكها وأمرائها وشعوبها وعلمائها ومفكريها وكل صاحب رأى فيها أن تقف وقفة حساب كبيرة ولحظة عتاب مريرة على ما وصلنا إليه من تخلف وهوان وتردي في شتى مجالات الحياة. لقد صرنا لقمة سائغة بين أنياب وحوش كاسرة وبطون جائعة افترسوا أمتنا وكأننا في غابة أسود البقاء فيها للأقوى ولا مكان فيها إلا لمن يمتلك القوة الباطشة. إننا في مجتمع دولي لا يرحم الضعيف ولا يعطي لكل ذي حق حقه بالمجان لأنهم يريدون أرضنا وثروتنا حتى نسمة الهواء يسرقونها من على أنوفنا لنموت بالسكتة القلبية ليرثونا لأننا لا ورثة لنا ولا بنات ولا بنون..!
* من المسؤول عن هذا التردي والتخلف والهوان؟ عامة الشعوب وعوام الناس أم النخبة المثقفة أم الحكام والأمراء والزعماء؟ أم كلهم جميعاً؟ لابد من المصارحة والمكاشفة حتى يمكن الوصول لنقاط الضعف ونعالجها ونداويها؟ لكن السؤال الجوهري يطرح نفسه: من ذا الذي بيده العلاج والبناء والإصلاح وأنت تبنى وغيرك يهدم؟ إن عملية بناء الأمة وإصلاحها وإعادة مجدها التليد وتاريخها المجيد ليس أمراً سهلاً هيناً وليس في نفس الوقت أمراً صعباً معقداً إذا خلصت النوايا. وأذكر الجميع بقول الله تعالى “وقفوهم إنهم مسؤولون”. ومن علم أنه مسؤول فليعلم أنه موقوف ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه محاسب حساباً عسيراً. رَوى ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ” فأين أنفقت أمتنا عمرها وعلمها وشبابها وأموالها وصحتها وعافيتها؟ للأسف الشديد أموالنا في يد أعدائنا، وعلماؤنا يخدمون في غير أوطاننا، وشبابنا الجاد المجتهد هجر أوطاننا، والأمة تفرقت شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون. حال يشيب من هوله الولدان.
* ألا نحاسب أنفسنا ونقف معها وقفة حساب وعتاب عن عام مضى؟ كم احتلت فيه من أوطان؟ وتفرقت فيه من أوصال، وكم شقى فيه من أناس؟ كم من أطفال يتمت، ونساء رملت؟ وثروات نهبت؟ وكم من أرض احتلت ونهبت خيراتها وثرواتها؟ أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالجبال. هناك عبرات سكبت، ودماء نزفت وأنفس بريئة زهقت ونحن كأهل الكهف أيقاظ نيام لا ندري بليل نحن أم بنهار؟ لو اطلعت على أحوال أمتنا لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً من هول صورتها الشاحبة المترهلة المخيفة التي تنتمي لعصور قديمة مضت. يقول الحق: “وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ” وقال عز وجل:
“فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” ويقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: “إن المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة” ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من علم إنا لله وإنا إليه راجعون فليعلم بأنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول.” فأين الحساب وأين العتاب يا خير أمة أخرجت للناس؟
* لا بد أن تقف هذه الأمة بكل أطيافها وأحزابها وقفة صادقة مع مرور هذا العام، واستقبال العام الجديد، لا بد من وقفة جادة مع النفوس لمحاسبتها ومراجعتها. ماذا قدمت لغدها، ماذا قدمت لأوطانها وأبنائها ومستقبلها ودينها وعقيدتها ومجتمعها؟ لا بد من السؤال: هل ستظل أحوال العرب والمسلمين كما هي عليه في السنوات الماضية، ضعفٌ في الإيمان، وقسوة في القلوب، وتجمد في العقول وتفرق في الكلمة، واختلال في الصفوف، ونزاعٌ وشقاق بين الإخوة، وأحقاد وأطماع وحروب وتصفيات جسدية ومعنوية؟ هل بحالنا وضعفنا هذا يمكن بأن نصنف اليوم بأننا خير أمة أخرجت للناس دينياً وتعليمياً وصحياً واقتصادياً وسياسياً؟ وإن لم نكن كذلك اليوم لعيب فينا، فمن المسؤول؟ وما العلاج؟ الإجابة بشفافية وصراحة هي أقصر الطرق لوضع حلول سريعة وفاعلة لأزماتنا ومشاكلنا. بغير هذا فلن نكون غير ريشة لا وزن لها هوت بها الريح في مكان سحيق ولن يعبأ بنا عدو ولا حتى صديق..!. اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.