محمد السيد
-1- وتبرعمت كلمات الحق
عندما تتوجع القلوب الواجفة، وتنبت على شواطئ الزمن غربة تترعرع فوق أرصفة الأوطان، وكلما انتفضت وربت الأحلام فوق أديم الأرض اليباب التي باع متنفذوها كل التاريخ بنشوة تسلط عابرة، وكلما أسقطت الكلمات الزائفة من حسابها الشعراء الذين نسجوا أحلام الصغار بضفائر الشهادة، وكلما ركلت هواجس الحرص على حياة ذاكرة الشمس التي تعشش في رمال البيداء الندية، كلما كان ذلك، وكان أصحاب الصمت الرمادي يَغَطُّون على حفيف الجبن والنفاق.. انتضى التاريخ سيف الذكرى العبقة بأنداء التضحية والفداء لتتبرعم كلمات الحق من جديد، وينجم في الأفق اسم عبقري التركيب عبقري الأثر، متجدد المطالع والمظاهر، إنه أبو الدعوة الرسالية، رفيق المهج العامرة بروح الحبيب المصطفى، إنه (حسن البنا) صاحب الدعوة التي أقامها على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجراها على عين الحبيب؛ كيف أراد لها أن تكون، مظهراً ومخبراً، علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، تأصيلاً وتجديداً وتطويراً، شمولاً وتفصيلاً وتميزاً..
-2- بناء متجدد
يقول الأستاذ محمود عبدالحليم في كتابه (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) صفحة 45 يصف أوضاع الإخوان ومرشدهم في دار الإخوان -وذلك قبل دخوله في صف الجماعة-: “ثم إنك لا تسمع حديثاً داخل هذه الدار، إلا عن الإسلام وما يتصل به وما يدور حوله.. ويدور حديثهم حول قضايا الساعة الاجتماعي منها والاقتصادي والسياسي، ويقيسونها بمقاييس الإسلام، وتحسّ حين تراهم وتسمعهم، وتراقب حركاتهم وسكناتهم، أنهم يهيّئون أنفسهم ليسدّوا فراغاً في هذه الأمة طالما ظلّ شاغراً نتيجة للجهل ولتدابير المستعمرين وقهر الظالمين”. وصدق الأستاذ محمود عبد الحليم في إحساسه ذلك، فقد سبق وأن بينّ الإمام الشهيد هذا المعنى في الوجود الإخواني الذي أقامه ورعاه مع بقيّة إخوانه من الرعيل الأول، وذلك حين قال في كتابه “الرسائل”: “أنتم روح جديدة تسري في هذه الأمة”. وأيضاً حين قال في وصفه للجماعة إنها سيف ومصحف، رياضة وجندية، دين ودولة، صوفية وسلفية، عبادة وحياة.
وإذن فإن هذا البناء الذي ابتدأ مداميكه الأولى هذا الرجل الفذّ، وقاده بعبقرية الإداري السياسي الاقتصادي الحكيم، إنما أسسه على قيم التجدد في الفهم والوسيلة وحسابات الظروف والأحوال المحيطة. لذلك فهو لم يألُ جهداً في إعداد إخوانه ليأخذوا بمنهج التجدد، ليقوموا بحق بسدّ الفراغ في الأمة -كما قال الأستاذ محمود عبدالحليم- وقد كان من مقتضى عمل هذا المنهج التجديدي أن يركّز الإمام الشهيد على نبذ التعصب للرأي، وتربية الإخوان على هذا الاتجاه، فكان رحمه الله يقول: ليس العيب في الاختلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وأدائهم. كما كان يقول: وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً، هذا فضلاً عن الفكرة التي تبنّاها وكان يرددها دائماً: “نجمتع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”.
-3- تجديد وبطولات
في الذكرى الثانية والسبعين لاغتيال الإمام الشهيد من قبل قوى الظلام الخفية التي كانت تحركها قوانين الحقد والحسد والتبعية وتعويق التقدم والإنقاذ في هذه الأمة، في هذه الذكرى (شباط 1949) يعرض لنا شريط التاريخ انتقال الإخوان بفضل توجيه مرشدهم الحكيم من البناء النظري إلى الميدان العملي في قناة السويس وفي فلسطين.. فما الذي وجدناه في هذا الشريط من معروضات، بنيت على أساس منهج التجديد والانتقال بالوسائل والعمل من مرحلة إلى مرحلة، تقتضيها الظروف والأحداث، غير جامدين على صورة واحدة من الحركة والعمل..؟..
إن شعارات أبدعتها الجماعة ورسختها التربية الإسلامية -التي خطط لها الأستاذ البنا- في قلوب الإخوان، من مثل “الجهاد سبيلنا” و”الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” أصبحت الآن ومنذ عام (48) على محك التطبيق العملي.. فما أن دعا الإمام المرشد العام إلى وضع الشعارات موضع التنفيذ لإنقاذ فلسطين، ونجدة الأهل فيها، حتى هرع المئات من الإخوان إلى الميدان وشكلت الكتائب، وأعدّت رايات الجهاد، وكان ما كان من شجاعة وإقدام وتضحيات أذهلت الصهاينة، وساعدت على إنقاذ المواقف الرسمية للجيش المصري في العديد من المواقع، وهو ما جلب الأنظار إلى هذه الجماعة التي ظنّ الكثيرون أنها جماعة كلام ثم عبادات وحسب، ولم يخطر ببال هؤلاء أن توجيه البنا معلم الابتدائي ينتج جماعة متماسكة قوية متينة، تستطيع في وقت قصير أن تتكيف وتتجدد وسائلها؛ من دعوة في المساجد والأماكن العامة، إلى الأخلاق الإسلامية والالتزام بالشرع الحنيف، إلى جماعة تنزل إلى ميادين الجهاد والقتال والتضحية بالمال والنفس، وتظهر أقصى درجات التنظيم والانضباط والطاعة المبصرة، والإقدام الهائل، والقدرات القتالية العالية، ما حدا بالبعض من أعداء هذه الأمة: “موشي دايان” أن يقول: إنّ هؤلاء (الإخوان) لن نواجههم في الميدان بل سنتركهم لحكامهم يتعاملون معهم بما يناسب.. وهذا فعلاً ما حدث، فما أن انتهت المعارك في فلسطين باستسلام الجيوش العربية للواقع الجديد الذي فرضته الصهيونية مدعومة بالدول الكبرى في مجلس الأمن، حتى عاد الإخوان من الميدان إلى المعتقلات في بلدهم (مصر)، وجرّدوا من السلاح، ثم خُطّطَ ودُبِّرَ لاغتيال مرشدهم، وتمّ للحاقدين المعتدين تنفيذ الجريمة في شباط 1949، حيث نُقِلَ الإمام الشهيد جريحاً إلى المستشفى ليلاً، ومُنِعَ عنه الأطباء كلياً، وأشرف على عملية ترك الإمام ينزف دون إسعاف الملك فاروق وحرسه، إذ ظل ينتظر بباب غرفته حتى توفي رحمه الله.
-4- امتداد وتجدّد
ذلك الإخلاص للإسلام والإيمان ولدعوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي انطلق من الروح الطيبة الطاهرة الواثقة من خطواتها، تلك الروح التي كانت تسكن بين جنبي الباني الإمام “حسن البنا”، لم يذهب ذلك الإخلاص هباء، ولم تضع ثقة صاحبها بالله.. بل إنّ الله سيّر ذلك الصوت الحاني الذي أطلقه مجدد القرن الرابع عشر الهجري إلى كل الاتجاهات في العالم.. فها هي امتدادات تلك الدعوة المباركة تُظلُّ بهديها أكثر من خمسة وثمانين قطراً من أقطار العالم، تسمع فيها نداء “الله غايتنا” “ومحمد صلى الله عليه وسلم رسولنا وزعيمنا وقائدنا” و”الجهاد سبيلنا” و”الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، وإنك لتجد وقع هذه الشعارات ميدانياً في فلسطين، حيث موجات الفداء والتضحية لا تتوقف ولا تتأخر، تحوطها أرواح الشباب المقدام، وتغذّيها كلمات الإمام الشهيد من وراء الغيب بماء الحياة، وقوة الدفع، وعزيمة الاستمرار حتى النصر أو الشهادة، يحدوها في ذلك قول ربها: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً))، ويرفدها في مسيرها إلى الله قول رب العزة: (( وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً))، كما أنك لتجد صدى ذلك الصوت الرباني الحاني يتردد في آفاق المغرب العربي والسودان ووادي النيل، وبلاد الشام والعراق، وعلى الأخص في شوارع ومساجد الثورة السورية المباركة، وفي الجزيرة العربية، وفي أوروبا وأمريكا وآسيا، وهو يحمل اليوم مع هذه الامتدادات المباركة خطاباً متجدداً يتطلع إلى مستقبلٍ زاهرٍ لأمته، ومجتمعٍ نظيفٍ، تحوطه شريعة الله بأعظم آيات التمدن والتحضر والتماسك والانفتاح، مادّاً يداً عامرة بالتعايش، وعارضاً فكراً مختزناً روح الحوار والتفاهم، ومجلّياً أخلاق الاحترام للإنسان أنّى كان ومهما كان.. متخذاً من آية ربه: ((ولقد كرّمنا بني آدم)) شعاراً وهتافاً، مبتغياً المقابلة بالمثل، وذلك كي يعيش الإنسان أخاً للإنسان، لا طامعاً فيما بين يديه ولا متوجهاً للهيمنة على روحه وثقافته وثروته وأرضه. وقد يقول قائل أين نجد في دعوة الإخوان مثل هذا الخطاب؟ وأقول لك.. إنّك لتجده متركزاً في كلمات دعوتهم ودعاتهم في كل مكان من مقالات مرشدهم (مصطفى مشهور) رحمه الله التي كان يطرحها على صفحات مجلة “رسالة الإخوان” ومجلة “المجتمع” وجريدة “الشعب”، وإلى مقالات مرشدهم الأستاذ (مأمون الهضيبي) رحمه الله، الأسبوعية التي كانت تتناقلتها الصحف ووكالات الأنباء. ثم إنك لتجده مرتكزاً مكثفاً في خطاب الإخوان السوريين اليومي في ميثاقهم الوطني الذي طرحوه في معظم وسائل الإعلام، ولاقى ترحيباً واستقبالاً حسناً في جميع الأوساط.. ولن تعدم أن تجد مثل هذا الخطاب في أدبيات هذه الدوحة المباركة من دعوة البنا الممتدة في جميع أقطار العرب والمسلمين، ولكن الحاقدين والراغبين في أن يغمضوا أعينهم ثم يفتحوها فلا يجدوا للإسلام ودعوته أثراً -على طريقة الهالك رابين في تمنياته لغزة هاشم- فهم لا يريدون أن ينظروا إلا بعينٍ واحدة، ولا يرغبون أن يروا إلا نصف الكأس الفارغة، ويصرّون على تلفيق الأفكار والمواقف الآتية من تلك العين العوراء الخبيثة.. التي تبعث إلى شفاههم بكلمات ومصطلحات مرجفة من مثل “الأصوليون، المتطرفون، الرجعيون، الماضويون، وأخيراً الإرهابيون.. الخ. الاسطوانة المشروخة على طريقة عنزة ولو طارت” فماذا تقول لمثل هؤلاء عندئذٍ إلا أن تردد على مسامع الكون وفي وجوههم: (( وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ..”.
-5- وبعد..
فإن دعوة الإمام الشهيد ماضية في امتدادها، ماضية في تجديد حركتها وخطابها، ماضية في سبيل الوصول إلى غاياتها في مرضاة الله.. وإعادة هذا الدين لقيادة حياة نظيفة كريمة عزيزة، تهدي للبشرية إنقاذاً من حصار المادة والمطامع والمنفعية المنبتّة عن القيم والمبادئ والأخلاق.. مرددة في أذن الكون.. ((قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين)).