د. عامر البوسلامة
شاعت في السنوات القريبة الماضية قضية القراءة الثانية للنص، والتفسير العصري لهذه النصوص، وتبيينها على ضوء علوم العصر وتطوره المعرفي، وقال مروجو هذه القضية كلمات حق يراد بها باطل، وساقوا مقولات حق لبعض الأعلام أرادوا منها التذرع بها لباطلهم؛ فظهر فلان ليقول لنا باسم القراءة الجديدة للنص، بأن كل قيمكم وثوابتكم وإجماعات فقهكم ليست صحيحة، فهاجموا الحجاب، وأحلوا ما حرم الله، وأدخلونا في دوامات لها أول وليس لها آخر بهذه الحجج البائسة، والاستدلالات العابسة، التي انطلت على بعض شبابنا وراقت لهم، وصاروا يلوكونها بأسنان مكسرة.
* وفي الحقيقة هي قضية قديمة حديثة:
1- قديمة من يوم ما ظهر أولئك الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم، الغلو وصفهم، والشدة مدرستهم، والجفاء سيرتهم، والغلظة منهجهم، والعجلة أساس حراكهم، والحماسة غير المنضبطة طريقتهم، وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت تلك العقائد الزائغة، والتفسيرات الشاذة، والتكفير للمسلم، بل كفروا أولياء الله من صحابة نبينا –رضي الله عنهم جميعاً– وقتلوا بعضهم، وحدثت كارثة إراقة دماء طاهرة، وسالت دماء زكية، وأدخلوا الأمة بشواغل ضيعت لهم ترتيب أولويات المشروع الإسلامي، وعرقلت سير العمل في مجالات الحياة كافة، والسبب فهمهم المغلوط للنصوص أو القراءة غير المنضبطة للنص.
2- وجاءت نتوءات الذين برزوا بلون آخر -مثل التفسير الباطني للنصوص- حتى سمعنا عجائب في هذا الميدان وغرائب، وما ظهور الفرق الضالة في فكرها وعقائدها سوى طيف من أطياف هذا الضلال، فصار الحديث عن الظاهر والباطن للقرآن، وكذا انتشار عقيدة الحلول، إذ يعتقدون بحلول الله –حاشا وكلا– في بشر، وكذلك القول بتناسخ الأرواح، وفسروا الصلاة بذكر بعض أسماء الأئمة، والحج هو الطواف بالقبر الفلاني.. وهكذا، كل ذلك تحللاً من تكاليف الشريعة، مع بث لعقيدة القول بالوحدة المطلقة، وغير ذلك مما يطول ذكره، حتى صار التفسير الباطني للنصوص من مذكورات الناس.
- معنى القراءة الثانية للنصوص:
أولاً لا بد من معرفة أن المقصود بالنصوص هنا نصوص الكتاب والسُّنة، وليس غير ذلك مما يدخل في القراءات المتعددة، والتفسير الواسع لها، كالنصوص التاريخية أو الفلسفية أو الشعرية والأدبية، مما هو من صنع البشر ومن إنتاجهم المحض، ذلك أن الخطأ في هذا الميدان أو حتى العبث به –رغم رفضنا لأي نوع من أنواع العبث– يمكن أن يكون عدوانه محدوداً، ونتائجه السيئة محصورة، أما نصوص الكتاب وصحيح السُّنة فالأمر مختلف، إذ لها قواعدها وضوابطها وأصولها، والعبث في فهمها يؤدي إلى كوارث على كل المستويات.
المهم أن هذا التيار الذي ظهر في عصرنا الحاضر من مجموعات لا يعرف عنها التدين، أو الالتزام الإسلامي، أو التمسك بالشريعة، يريدون أن يقولوا في القرآن بهواهم، ويشرحوا السُّنة على أمزجتهم، ويبينوا العقائد كما يحلو لهم، وينشروا الفقه ويبينوه كما يروق لهم؛ فلا ثوابت، ولا قطعيات، بل ولا التزام باجتهادات.
* ضوابط قراءة نصوص الكتاب والسُّنة:
أجمع من يُعتد به من العلماء سلفاً وخلفاً أن قراءة النصوص الشرعية، وهو لون من ألوان الاجتهاد، لا بد أن يكون من خلال قواعد وأصول؛ دفعاً للزلل، وتجنباً للخطأ، وسيراً لبرامج الأمان، على طريق السلامة؛ لذا وضع العلماء مجموعة من الشروط لهذا الأمر، حتى لا نخرج عن جادة الصواب، ونبقى ضمن مسار الرشد الذي أمرنا الله تعالى بالوصول له.
ومن هذه الشروط العلم باللغة العربية؛ فلا يمكن للمرء أن يقرأ نصوص القرآن والسُّنة وهو جاهل في اللغة العربية، فلا يعرف التمييز بين الاسم والفعل والحرف، ولا يدرك معاني البلاغة، وغير ذلك من علوم العربية ولو في الحد الأدنى من هذه العلوم، لأنها -كما وصفها العلماء- علوم آلة، فالقرآن الكريم كتاب نزل بلغة العرب، وهو معجز في فصاحته وبلاغته، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، كما دل على ذلك الاستقراء، فكيف يفهم هذان المصدران العظيمان بغير هذه اللغة، كمفردة من مفردات الشرط في الاستنباط من هذه النصوص، من هنا قال العلماء: لا ثقة بعلم من جهل اللغة.
يقول الشيخ حسن البنا –رحمه الله تعالى– في الأصل الثاني من الأصول العشرين: «والقرآن الكريم والسُّنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السُّنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات».
ووضع العلماء علم أصول الفقه، وسطروا بصحائف من نور علم مصطلح الحديث، وذكروا شروط الاجتهاد، واجتهدوا في هذا ما بين مضيق وموسع، لكنهم اتفقوا على الشروط من حيث الجملة، وما علم «علوم القرآن» الذي كتبت به نفائس الأسفار، وبينوا شروط المفسر لكتاب الله تعالى، عن الباحثين ببعيد.
من ثمار ذلك أن كان هذا التراث العظيم الذي أنتجته عقول علمائنا ومفكرينا، من الذكور والإناث عبر التاريخ، ومنها هذه التفاسير الكثيرة، وكذا شروح السُّنة، وكذلك المدارس الفقهية، وما أنتجت من دوحات علم يستظل بها المسلمون، وينهلون من معينها العظيم، لذا كان عندنا الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والليث، والسفيانان، والحسن، والبصري، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والموصلي، والطبري، وابن كثير.. وغير هؤلاء من كبار العلماء الذين شكلوا ثقافة أمتنا مما استنبطوه من الكتاب والسُّنة، من أهل التجديد والاجتهاد، فكانت مئات التفاسير، وانتشرت شروح السُّنة، ونشأت المدارس الفقهية، المذهبية والمقارنة، وغير ذلك مما نعجز عن ذكر جملته في هذه العجالة، فكانت رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، وهو إرث نفاخر به، ونعتز به، والقاعدة عندنا في نهاية المطاف «كل يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر –صلى الله عليه وسلم- فلا معصوم بعده»، وكل أحد يخضع لهذه القوانين.
* الهدف من ظهور هذه الأفكار:
1- في السابق كان الملحدون يهاجمون عقائد الإسلام جهاراً نهاراً، وتصدى لهم الغيورون من أهل العلم، وأفشلوهم وأوقفوهم عند حدهم، ولما رأوا ذلك تغيروا، أو تغير بعضهم، إلى أسلوب جديد، وهو إظهار إيمانهم بالنصوص، ثم يقولون: من حقنا أن نقرأها بطريقة ثانية، لذا ترى هجمتهم شرسة على التفاسير كلها، ويزعمون أننا نريد أن نفسر القرآن كما يظهر لنا! ويهاجمون السُّنة هجوماً شرساً، ومن ذلك الهجمة العجيبة على صحيح البخاري، فلم يبقوا ولم يذروا على هذا الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، إذن هي حرب على قيم الإسلام وتعاليمه ومصادره ولكن باسمه!
2- تعويد الأجيال على نقد نصوص الوحي، وإشعارهم بأن نصوص الوحي مثلها مثل نصوص البشر، كلها قابلة للأخذ والرد والنقد، وهذا يكون مقدمة للعدوان على ثوابت الدين وأصوله القطعية، ومن ثم كسر هيبتها الإيمانية لدى الناس، حتى يقع الفأس في الرأس.
3- تحطيم مقولة «لا اجتهاد في مورد النص»، وتكسير مفهوم مصادر الشريعة والاعتماد عليها بطريقة العلماء على فهم السلف والخلف، ويلوكون مقولات ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبلها العذاب.
4- الدعوة إلى التحلل من تكاليف الشريعة، بهذه التفاسير المعوجة، والأساليب الزائغة، وهذا الذي يهدفون إليه في نهاية المطاف.
* وهنا نحب أن نؤكد جملة من المعاني:
1- نعم للاجتهاد، سواء الاجتهاد الترجيحي في المختلف فيه، أو الذي يقع في دائرة «النوازل» والمستجدات المعاصرة، ولكن من المؤهلين له، وهذا ليس من باب احتكار العلم، وليس من باب الكهنوت، كلا.. فالأمر غير ذلك، بل هو من باب ضبطه بضوابطه الصحيحة، ومن باب احترام الاختصاص، وهو مجال تنافسي، يتقدم فيه من هو أجدر بالمهمة.
2- كما نؤكد أن الاجتهاد في الوسائل، والإلمام بفقه الوقت، ومجريات الواقع، ومعرفة لوازم العصر في عالم النظم، وتطوير هذا ليستوعب في إطار الدعوة إلى الله، يعتبر من ضروريات العمل الإسلامي.
3- نريد الانضباط حسماً لمادة الفوضى، ونشجع على الإبداع بكل صوره وأشكاله وألوانه، فهو من سبل النجاح.
4- قد يقول قائل: نرى بعض هذه الأفكار يرددها «معمَّمون» أحياناً، وكذا نلاحظ بعض الذين يعتلون المنابر ينادون بهذه الأفكار ذاتها، أقول لهم: إن خيطاً ما يربط بين الطرفين، والأيام القادمات كفيلات بكشف كثير من المستور.