الإخوان المسلمون في سورية

الغِيبة.. وحركة الحياة

د. عامر البوسلامة

 

الغِيبة كبيرة عظيمة من كبائر الإثم والعدوان، وسيئة من سيئات الضلال والفساد، هي حالة من حالات الضياع، وصورة من صور الشرود، وطريق من طرق التيه، وباب من أبواب الارتكاس في حمأة الجاهلية، خانقة الفضيلة عند الناس، وتصنع الدخن والإلباس، ومدخل من مداخل التمزق، وعالم من عوالم الانحدار، وآفة تأكل الأخضر واليابس، لا تبقي ولا تذر، محبطة لأعمال البشر، قال الحسن البصري: “والله لَلغيبة أسرع في دين الرجل من الأكَلة في الجسد”.

 

الغيبة مكسرة لأسوار الفضيلة، ومدمرة لحصون الحياء، ومزلق من مزالق الطغيان، ونافذة من نوافذ العدوان، ومسرب من مسارب البغي، ومرتسم من مرتسمات الشيطان، يعكس من خلالها إبليس غواية العدوان، فيحقد الإنسان على أخيه الإنسان، ويمد له حبال الغي، حتى يوقعه في شرك الرذيلة.

 

مرَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه على بغل ميت، فقال لأصحابه: “لأن يأكلَ أحدكم من هذا البغل حتى يملأ بطنَه خيرٌ له من أن يأكل مِن لحم أخيه المسلم” (صحيح الترغيب والترهيب).

 

إنها الغيبة! مدمرة المجتمعات، وصانعة المبغضات، وجري وراء الشهوات، ومحركة للعداوات، ومبددة للطاقات، ومجمع من مجامع الغفلات، وسبيل من سبل الهلكات، تهوي بالمرء إلى أسفل الدركات، وأحط العاقبات، وأخس الدركات، وهي في مجال السير إلى الصلاح من العقبات، حيث توصلت إلى الطامات الكبيرات.

 

إنها الغيبة! عدو مبين، وشر مستطير، ونكد فظيع، وبعد عن مناهج الربانيين، وأحوال الصالحين، وسير المتقين، أصحابها عناكب الفتنة التي تنسج خيوطها في وسط المجتمعات، ما شاعت في أمة إلا جعلتها في الحضيض، ولا أدمن عليها امرؤ إلا تحول إلى شيطان رجيم، ولا انتشرت في جماعة أو حزب إلا حول نهاره إلى ليل، وسعادته إلى شقاوة، وحلاوته إلى مرارة.

 

أصحابها ظلاميون بكل دلالة المعنى؛ ظلمة قلب، ووجه وضمير، ظلمة عين أو لسان، أو جارحة، ظلمة سلوك، هم رسل الشر، وعناوين الفساد، ورموز الخراب، ولصوص الطاقة، حيث حلوا تفوح روائح المكر، وطعوم الكيد، وألوان الفتن، وصنوف الفساد، إنهم الخطر الكبير، والحذر منهم جدير.

 

* تشدد الإسلام في تحريم الغيبة:

 

قال الله تعالى‏:‏‏ (‏وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {12})‏ ‏‏(‏الحجرات‏‏‏)، يقول الأستاذ سيد قطب في ظلاله: “لا يغتب بعضكم بعضاً، ثم يعرض مشهداً تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية، مشهد الأخ يأكل لحم أخيه ميتاً! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!”.

 

ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئاً أن يبادر بالتوبة تطلعاً للرحمة: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {12}).

 

ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب، ويتشدد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متمشياً مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض.‏

 

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36}) ‏‏(‏الإسراء‏‏‏)،‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18}) ‏‏‏(‏ق‏‏‏)‏‏.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ “أتدرون ما الغيبة‏؟‏”، قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏”‏ذكرك أخاك بما يكره‏”‏، قيل‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏”‏إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته” ‏‏(‏رواه مسلم‏)‏‏.‏‏

 

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي المسلمين أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏”‏من سلم المسلمون من لسانه ويده” (متفق عليه)‏‏‏‏.‏

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب‏” ‏‏(متفق عليه‏).‏

 

وعن معاذ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏‏ “ألا أخبرك بملاك ذلك كله‏؟‏‏”‏، قلت‏:‏ بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه قال‏:‏ “‏كف عليك هذا‏”‏، قلت‏:‏ يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ فقال‏:‏ “ثكلتك أمك‏!‏ وهل يُكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم‏؟‏‏”‏ ‏(رواه الترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن صحيح)‏‏.‏

 

وعن أبي بكر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع‏:‏ ‏”‏إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت” (‏متفق عليه)‏‏.‏

 

وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا‏ -قال بعض الرواة‏:‏ تعني قصيرة- فقال‏:‏ ‏”‏لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته‏”‏، قالت‏:‏ وحكيت له إنساناً فقال‏:‏ “ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا” (رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).

 

وعن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ “لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت‏:‏ من هؤلاء يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم‏” ‏(‏رواه أبو داود)‏.

 

والناس مع الأسف يستهينون بهذا المرض الفتاك، حتى أصبحت الغيبة فاكهة المجالس، وسلوان الغافلين، وتسلية المبطلين.

 

وكما أن الغيبة حرام، فكذا سماعها والرضا بها، ومشاركة أصحابها ولو بالسكوت، ونص العلماء على تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبة محرمة بردها والإنكار على قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه، كما نقل ذلك الإمام النووي وغيره من الأعلام، قال الله تعالى‏:‏ (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)‏ ‏(‏القصص‏:‏ 55‏)،‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3}) ‏(المؤمنون)، وقال تعالى‏:‏ (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {68}‏) (الأنعام‏)‏‏.‏

 

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏”‏من رد عن عِرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة” (‏رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).

 

‏وعن كعب بن مالك رضي الله عنه، بحديثه الطويل في قصة توبته، ‏قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏”‏ما فعل كعب بن مالك‏؟”،‏ فقال رجل من بني سلمة‏:‏ يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏”‏ (‏متفق عليه‏).‏

 

الخلاصة: الغيبة مصيبة على المرء وعلى المجتمع، وهي من الآفات الكبرى التي ابتلي بها كثير من أبناء جلدتنا، وهذه الأدلة التي سقناها جزء من أدلة النواهي عن هذا الخلق السيئ، ولو أردنا استقصاء ما ورد من أدلة وأقوال وتفصيلات وحديث شامل عنها، لكانت مجلداً، فاحذر، وانتبه، وتذكر، واعقل، واتق الله!

الدكتور عامر أبو سلامة

مفكر وكاتب إسلامي