د. عبد المجيد عبدالله دية
المقدمة
الإخوان المسلمون جماعة إسلامية أسسها الإمام الشهيد حسن البنا وثلة من إخوانه بعد سقوط الخلافة الإسلامية لتحرير العالم الإسلامي من الاستعمار الأجنبي وإقامة دولة إسلامية، وقامت الجماعة بنشر الفكر الإسلامي المستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربية الناس عليه، ودعوتهم إليه.
وأبرز المراجع لفكر الجماعة ومنهجها رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، حيث تضمنت أهم مفردات منهج الإخوان وعمدة نظامها الأساسي، وآراء فكرية وتنظيمية وسياسية واقتصادية ونحوها، وتزيد عن عشرين رسالة.
هذه الجماعة لها فكر وفهم وتعاليم ونظام وقيادة وشورى وأهداف ووسائل وخصائص وغيرها، فهي بحق مدرسة. ويغلب على هذه المدرسة الوسطية والاعتدال في جوانب كثيرة، ومجالات متعددة…وسأبحث موضوع الوسطية والاعتدال في هذه المدرسة في المطالب الآتية:
المطلب الأول: معنى الوسطية والاعتدال لغة واصطلاحا وشروط استعمالها
المطلب الثاني: مجالات الوسطية والاعتدال.
المطلب الأول: معنى الوسطية والاعتدال لغة واصطلاحا:
الوسطية لغة: تدور على عدة معان منها:
العدل والفضل والخيرية والنصف والتوسط بين طرفين. (لسان العرب ج15ص209_211)
الاعتدال لغة: يدور حول عدة معان منها: التوسط بين حالين في كم أو كيف أو تناسب، والاستقامة، والاستواء، وعدم مغالاة، والعدل وإقامة العدل، والحكم بالحق.(لسان العرب ج10ص63-64)
الوسطية اصطلاحا: العدالة والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط، قال تعالى:
((وكذلك جعلناكم أمة وسطا)) (البقرة 143)
العدل اصطلاحا: التوسط والخيرية
فنلاحظ من هذه التعريفات اللغوية والاصطلاحية أن الوسطية والاعتدال بينهما تقاطع في المعاني كالخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط.
ولا تعني الوسطية الترخص والتنازل عن المبادئ والثوابت، بل تعني اختيار الأنسب والأحكم في الأقوال والأفعال في الزمان والمكان المناسبين.
والوسطية صفة رئيسة للأمة الإسلامية، وهي إرادة الله لهذه الأمة وقدرها، لقوله تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) البقرة (143)
ويذكر سيد قطب في تفسيره لهذه الآية (أمة وسطا) في التصور والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس الماديّ، إنما تتبع الفطرة، الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل على ترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، (أمة وسطا) في التفكير والشعور لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنا وجدها أخذها في تثبت ويقين” في ظلال القرآن، ج1، ص131
ويرى المفكر الإسلامي د محمد عمارة أن هذه الوسطية لا تعني انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام المشكلات والقضايا المشكلة، أو أن تكون وسطا بين رذيلتين، مثل: (الفضيلة اليونانية)، ولكنها في التصور الإسلامي: موقف ثالث حقا، ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبت الصلة، بسماتهما وقسماتهما ومكوناتهما، إنه مخالف لهما ليس في كل شيء وإنما خلافه لهما، منحصر في رفضه الانحصار والانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب، وحدها دون غيرها.. منحصر في رفضه الإبصار لا ترى إلا قطبا واحدا، منحصرا في رفضه الانحياز المغالي.
ولذلك فإن كموقف ثالث وجديد، إنما يتمثل تميزها وتتمثل جدتها في أنها تجمع وتؤلف ما يمكن جمعه وتأليفه- كنسق غير متناثر ولا مغلق- من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما، وهي لذلك وسيطة جامعة. (مئوية الإمام البنا ص343).
والوسطية ملازمة للتيسير، وفقه الإخوان وفكرهم وسط بين التزمت والتنطع من ناحية والتسيب والتحلل من ناحية أخرى. وبعدهم عن الجمود نوع من الوسطية، فحسن البنا لم يكن جامدا، بل كان دائم التجديد والتطوير للوسائل والأساليب في أبنية الحركة وأنظمتها ومؤسساتها. (أولويات الحركة الإسلامية).
المطلب الثاني: مجالات الوسطية والاعتدال:
هناك مجالات متعددة للوسطية والاعتدال في مدرسة الإخوان المسلمين، منها المجال الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها، وسأركز في هذه الورقة على الجانب الفكري، وسأبحثه في الفروع الآتية:
الفرع الأول: الفهم:
الفهم ركن من أركان البيعة عند جماعة الإخوان المسلمين، وجعله الإمام البنا الركن الأول، لأهمية الفهم، حيث إن مشكلة الخوارج كانت في فهمهم للإسلام، وكذلك مشكلة بعض التيارات الإسلامية اليوم.
والمقصود بالفهم هو أن يوقن المرء بأن فكرة الإخوان ” إسلامية صميمة” وأن يفهم الإسلام كما يفهمه الإخوان في حدود أصول عشرين وضعها الإمام البنا.( رسالة التعاليم ص 356)
وبدراسة معمقة لهذه الأصول يرى الباحث بأنها تمثل الوسطية في الفكر الإسلامي، ومن هذه القضايا الكبرى التي تتمثل فيها الوسطية والاعتدال شمول الدين الإسلامي، والموقف من الخواطر والرؤى، والموقف من البدعة، والموقف من تحديد هوية الأمة والتكفير وغيرها.
إن فكر البنا وفهمه للإسلام وما أضيف إليه من اجتهادات تجديدية من علماء الدعوة وقادتها يمثل الوسطية الحقيقية البعيدة عن الغلو. حيث تخرجت في هذه المدرسة وعلى أيدي دعاتها أجيالا فهمت الإسلام الفهم الصحيح كما فهمه سلفنا الصالح من لدن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا.
إن هذا الفهم هو ما اتفق عليه الإخوان في أدبياتهم ومناهجهم الفكرية وكتبهم المعتمدة وفي مقدمتها رسائل الشهيد حسن البنا، وهذا الفهم واضح كالشمس في كبد النهار، وهو ما تعلمناه وتحركنا به في الناس منذ عشرات السنين.
وبهذا الفهم فإن منهج الخطاب لهذه المدرسة يقوم على محورين:
ثابت: هو ما يتعلق بالجانب العقدي والفهم الصحيح للإسلام
ومتغير: ما يناسب العصر والمستجدات من وسائل
إن هذا الفهم الصحيح بأصوله حفظ للدعوة ومدرستها حضورها واستمرارها ونموها بالرغم مما تعرضت له من ظلم واضطهاد، وكثرة السهام التي وجهت لها.
ورحم الله الشافعي حيث قال: “إذا أردت أن تعرف أهل الحق فانظر إلى سهام أهل الباطل”.
الفرع الثاني: الخلافات الدينية والآراء المذهبية:
وقف الإخوان من الخلاف في الاجتهاد والآراء موقفا عادلا وسطيا لا غلو فيه ينسجم مع مبادئ الإسلام العامة، ومقاصد الشريعة، ومنطق الأشياء وواقع الحال عند الناس جميعا.
وعد الإمام البنا – رضي الله عنه – في رسالة بين الأمس واليوم، الخلافات الدينية والمذهبية من عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية. فالخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجمود والتعصب للآراء والأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وكل ذلك مما حذر منه الإسلام، ونهى عنه أشد النهي.
وأكد الإخوان المبادئ الآتية في التعامل مع الخلاف:
الوحدة لا الفرقة. الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة؛ لاختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وسعة العلم وضيقه، واختلاف البيئات والروايات وتقدير الدلالات( رسالة دعوتنا) ص 32. الإجماع على أمر من فروع الدين مستحيل، مما جعل الدين ميسرا هينا لا جمود فيه ولا تشديد، ويؤكد الإمام الشهيد هنا على خاصية التعددية الفكرية، والتي تستند في جوهرها إلى النص القرآني الذي يبرز لها أصولا متعددة في وجه القائلين بالأحادية الفكرية التي نهى عنها الكتاب الكريم ونفاها باعتبارها (أي الواحدية) تخص الله وحده ولا تخص أيا من مخلوقاته، والإمام بذلك يسهم في إرساء أصول إسلامية للتعددية الفكرية في المجتمع الإسلامي، والتي هي الوجه الحقيقي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ومنهج الإمام في ذلك يعتمد في جوهره على الأصول القرآنية، التي تؤصل لمفهوم التعددية بوجه عام. ومن هذه الأصول: أصل التنوع والاختلاف وأصل الحرية وأصل الحوار.(بحوث مؤتمر مئوية الإمام البنا،الإمام الشهيد والتقريب بين المذاهب الإسلامية، ص 245-247). هذا الخلاف لا يكون حائلا دون ارتباط القلوب والتعاون على الخير. الإخوان يكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.( رسالة دعوتنا ص25-27)
وإن الاختلاف ما دام يعتمد على أسس معرفية ومنهجيات قائمة عند العلماء وأصول مستقرة عند فقهاء السلف ولا تؤدي إلى العنف والاقتتال هو خلاف سنني لم يخل التاريخ منه حتى في عصر صحابة الرسول- عليه السلام- وهو بين أظهرهم.
وهذا الموقف من الخلاف في الفروع الفقهية، وكذلك الاجتهاد في فروع العقيدة يؤكد أن الإخوان ليسوا مذهبا فقهيا ولا مدرسة عقدية.
الفرع الثالث: الشمول:
إن دعوة الإخوان ترى أن مهمة المسلم في هذه الحياة هي عبادة الله وفعل الخير والجهاد في سبيل الله. فمهمته هي العبادة بمعناها الشامل لكل ما يحبه الله ويرضى من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ومنها: إصلاح القلوب والأفراد والمجتمعات وتحصيل القوة الروحية والمادية، وإصلاح القانون، ومظاهر الاجتماع والتعليم ونحوه( إلى أي شيء ندعو الناس ص (41-50).
فبعض المسلمين والجماعات يركزون على العبادة والذكر فقط، وبعضهم على العلم والفكر فقط، وبعضهم على العمل الخيري فقط، وبعضهم على العمل السياسي فقط، وبعضهم على العمل الدعوي فقط.
ولكن مدرسة الإخوان تشمل ذلك كله،وهذا الشمول هو ما يوجهنا إليه الإسلام ذاته، حيث إن هذا الدين يشمل كل ما يحتاجه الإنسان عن الحياة والنفس والكون. وهذا ما يحقق الخير للبشرية بعيدا عن الغلو في جانب واحد على حساب الجوانب الأخرى، فتضخيم جانب على جوانب أخرى تطرف وغلو.
ولذلك جاء في رسالة بين الأمس واليوم ما يوضح هذه الأفكار وهذا الشمول وهذه الوسطية. حيث يقول الإمام: ” أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا، ولا هيئة موضعية الأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة، فيحييه بالقرآن، إذا قيل لكم إلام تدعون، فقولوا ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه سياسة! فقولوا هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام. (رسالة بين الأمس واليوم، ص 110)
وقد مارس الإخوان هذا الشمول عمليا، حيث يقوم الإخوان بعمل الخير في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية ونحوه. فهم يبنون دار العبادة والمعهد التعليمي، ودار الصناعة ولجان المصالحة والصدقات والوعظ، والعمل التطوعي والوسيلة الإعلامية والمستشفيات والجامعات والمدارس ونحوها.(رسالة هل نحن قوم عمليون؟ ص 64-66).
وهذا العمل والشمول واضح جلي في مدرسة الإخوان المسلمين على وجه هذه الأرض.
فالإسلام – في مدرسة الإخوان المسلمين – عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف. والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان في جميعه، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) (القصص : 77 ).( رسالة المؤتمر الخامس ص 119)
الفرع الرابع: المنهج الإصلاحي:
كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية، وتستطيع القول: إن الإخوان المسلمين:
1- دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.
2- وهو طريقة سنية: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
3- وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب.
4- وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل، وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية، بغيرها من الأمم في الخارج.
5- وجماعة رياضية: لأنهم يعنون بجسومهم ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.
6- ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة، على كل مسلم ومسلمة، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف، ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح.
7- وشركة اقتصادية، لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه.
8- وفكرة اجتماعية: لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها، وشفاء الأمة منها.(رسالة المؤتمر الخامس ص121-123)
هذا الشمول في المعاني الإصلاحية هو أحد معاني الوسطية والاعتدال؛ لأن التركيز على جانب من جوانب الإصلاح في الإسلام وإهمال الجوانب الأخرى غلو وتطرف وتشوه؛ ولأن الشمول والتكامل في المعاني الإصلاحية هو ما يحقق مصالح العباد الضرورية والحاجية والتحسينية. وإلا فإن التركيز على جانب دون الجوانب الأخرى، أو إهمال بعض الجوانب يؤدي إلى إلحاق الحرج والمشقة بالناس وهذا أمر مرفوض في الشريعة…
الفرع الخامس: الوسطية في العقيدة
وقف الإمام حسن البنا موقفا وسطا معتدلا من قضية آيات وأحاديث الصفات، حيث انقسم الناس في هذه المسألة على أربع فرق:
1- فرقة أخذت بظواهرها كما هي، فنسبت إلى الله وجها كوجوه الخلق وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة، وليسوا من الإسلام في شيء.
2- فرقة عطلت معاني هذه الألفاظ على أي وجه، فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، وهؤلاء هم المعطلة، ويطلق عليهم بعض العلماء (الجهمية)، ويرى الإمام البنا أن هذين رأيين باطلين، وهناك رأيان، هما محل أنظار العلماء في العقائد، وهما رأي السلف ورأي الخلف.
3- أما السلف فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه.
4- أما الخلف، فقد قالوا: إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات وهذه الأحاديث لا يراد بها ظواهرها، وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها، فأخذوا يؤولون الوجه بالذات، واليد بالقدرة وما إلى ذلك؛ هربا من شبهة التشبيه.
وقد رجح الإمام مذهب السلف في قوله: (ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت، وتفويض علم هذه المعاني إلى الله سبحانه وتعالى، أسلم وأولى بالاتباع، حسما لمادة التأويل والتعطيل، ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله.
وخلاصة البحث في هذه المسألة، أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، هو تأويل في الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم.( رسالة العقائد ص 411-418)
وقد وقف الإمام موقفا معتدلا من الأولياء فقال في الأصل الثالث عشر:” ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى:” الذين آمنوا وكانوا يتقون”، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم.
وكان – رحمه الله – حريصا على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك بكل أنواعه، حيث قال في الأصل الرابع عشر: ” وزيارة القبور أيا كانت، سنة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم بذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة”، وكذلك حارب إتيان الكهنة والعرافين وتصديقهم، حيث قال في الأصل الرابع: ” والتمائم والرقا والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب، منكر تجب محاربته إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة”.(رسالة التعاليم ص 358)
ونلاحظ أن الإمام قد اهتمّ ببيان الحق قبل فضح الباطل، وهذا أدعى لقبول الناس للمعروف الذي يقدمه.
الفرع السادس: النظرة إلى المجتمع وتحديد هويته:
من دلائل الاعتدال والتوازن في تربية الإخوان، كما فهمها حسن البنا ونفذها، نظرته إلى المجتمع وعلاقة الإخوان به، فهي نظرة وسطية معتدلة، فليس مجتمعا خالص الإسلام كامل الإيمان كما يتوهم السطحيون من الناس. فلا شك أن المجتمع في كافة بلاد المسلمين يعاني أمراضا خطيرة عقدية وفكرية وخلقية واجتماعية، ويعاني أيضا من الفساد في كل شيء ومن الاستبداد، ورغم هذا الانحراف والفساد، الشائع في المجتمع، ورغم هذا الاستبداد لم يذهب حسن البنا يوما إلى القول أنه مجتمع كافر، فما زالت شعائر الإسلام تقام في هذا المجتمع، وما زال جمهور الناس مؤمنين بربهم ونبيهم وقرآنهم.
وقد كان حسن البنا يربي أفراده على الاحتراز من خطيئة التكفير للمسلمين، والوقوع فيما وقع فيه الخوارج من قبل، حيث كفروا من عداهم من المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، حتى كان من سماتهم البارزة: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.
والأصل الأخير من أصوله العشرين يقول في صراحة ووضوح” لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض- برأي أو معصية- إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر”. ( رسالة التعاليم ص359)
الفرع السابع: فكر الإخوان واستخدام القوة والعنف:
غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الأسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) (البقرة: 138).
ووسيلتهم في ذلك تربية أنصار للدعوة على هذه التعاليم ’ويبدأون بالفرد المسلم الذي هو أداة التغيير عندهم، ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، وهذا كله لا يتحقق بسيف ولا برمح ولا بقنبلة، ولكن يتحقق بتربية طويلة المدى عميقة الأثر، وهذا هو نهج الرسول _صلى الله عليه وسلم _ في الدعوة الى الله، فلا مكان للعنف عندهم في مجال الدعوة. (منهج التغيير عند الإمام البنا )(ص195).
فالإخوان لا يكرهون أحدا على الإسلام، ولا يجوز لهم ذلك، استجابة لأمر الله _عز وجل _ الذي يقول: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) (البقرة 256)
والإخوان يرون أن الإسلام يفتح القلوب والعقول، ويدعو الناس بالإقناع، وأكثر الأمم التي دانت للإسلام لم يحدث فيها قتال.
وأما موقفهم من استخدام القوة، فقد أجاب البنا عن ذلك في وضوح وجلاء، فبين: أن القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” رواه مسلم في كتاب القدر(2664). وأن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والإرتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح.
هذه نظرة، ونظرة أخرى: هل أوصى الإسلام ـ والقوة شعاره ـ باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدودا، واشترط شروطا، ووجه القوة توجيها محددا؟
ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول العلاج أم إن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج القوة النافعة ونتائجها الضارة؟ ثم بعد ذلك يقول البنا : إن الإخوان سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها. (رسالة المؤتمر الخامس ص 134ـ 136).
ويعلق القرضاوي على ذلك بقوله:” هذه القوة التي أشار إليها الإمام الشهيد، ليست هي الإغتيال السياسي، ولا قتل المدنيين، ولا تدمير المنشآت، ولعل المقصود هنا أن تقوم القوات المسلحة بذلك، حين يقتنع رجالها بالفكرة الإسلامية، كما حدث أخيرا بالسودان، حيث قامت ثورة الإنقاذ التي لم يرق فيها قطرة دم” ( الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد ص121).
فالحركة لا تفكر باستخدام القوة إلا في ظروف استثنائية، وأماكن محدودة لا يكون أمامها خيار، مثل ما حدث في فلسطين لمقاومة المحتل، والقناة لمقاومة المستعمر، وهذا لون من الجهاد مطلوب،وأما شعار “الجهاد سبيلنا” فليس جهادا من غير ضوابط في كل اتجاه، فالجهاد أولا المقصود منه ضد الاستعمار الأجنبي، او ضد المعتدي الذي يريد استنصال الإسلام، أو حين يحال بين المسلمين وبين دينهم، ويحكم ذلك قواعد شرعية، وضوابط فقهية.
هذا هو منهج الإخوان وموقفهم من العنف والقوة، وأدلتهم على ذلك كثيرة منها:
الإسلام واجه الغلو في كتاب الله وسنة رسوله. يعتقد الإخوان أنهم جماعة من المسلمين وليسوا جماعة المسلمين. موقف الإخوان من قضية التكفير كما ذكرت سابقا. وقد ذكر عمر التلمساني أن سيد قطب في ظلال القرآن ومعالم في الطريق كان شديد النقمة على الظلم والظالمين ووصفه للمجتمع بأنه جاهلي، لم يقصد بذلك تكفير المجتمع أو الناس.(ذكريات لا مذكرات ص28)
وقد ذكر الأستاذ مصطفى مشهور لي بأنه التقى مع سيد قطب في السجن واستوضح عن موضوع التكفير فدعا سيد شخصا في السجن قد ارتكب كثيرا من الجرائم والكبائر فقال سيد: هذا شخص لا نكفره وقد ارتكب هذه الجرائم كلها فكيف نكفر المسلمين؟!.
موقف الإخوان من التيارات الإسلامية حيث يدعون إلى الإلتقاء والتقارب والعمل المشترك والتعاون فيما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه. يعمل الإخوان على التعاون مع الأحزاب غير الإسلامية، من قومية ويسارية وعلمانية لما فيه مصلحة الأمة والوطن. وحصل هذا كثيرا وآ خرها في الأردن حيث ترشح على قوائمهم في التحالف الوطني للإصلاح قوميون ومستقلون وحتى غير المسلمين من إخواننا المسيحيين، وكذلك في النقابات المهنية. نظرتهم الوسطية في تعاملهم مع الحكومات والأنظمة، والتزامهم بدساتير البلاد التي يعيشون فيها، ويسعون لإصلاحها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. حيث يعتقد الإخوان أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاما آخر. (رسالة المؤتمر الخامس ص138). وكان البنا يتواصل مع الرؤساء والحكام للحوار والتناصح، ويرسل الرسائل التي يبين لهم فيها أن تطبيقهم لشرع الله يضمن تبادل الثقة بينهم وبين شعوبهم. (الملهم الموهوب ص46). موقف الإخوان من إخوانهم المسيحيين غير المحاربين يقوم على البر والقسط، لقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)) (الممتحنة : 8).
وأما ما حصل من بعض التجارب_ مما له علاقة بالعنف_ كالتجربة السورية مثلا، فقد استخدمت القوة لوجود مبررات منها الدفاع عن أنفسهم وأطفالهم وأعراضهم، ووجود إطار شامل، ووجود إجماع وطني، وبعد بيان زمان استخدامها، والجهة التي توجه إليها القوة، فالقوة تستخدم في ظرف ما ومكان ما وبشروط وضوابط محددة، والدراسة والموازنة بين المنافع والمضار.
وفي الختام، فهذا هو فهم الإخوان للإسلام وفقههم وفكرهم ومنهاجهم الإصلاحي الوسطي… حيث لقي هذا الفكر الوسطي قبولا في الأرض عند المسلمين وغيرهم، وقد أثنى كثير من مشايخ السلفية على هذه الجماعة وعلى بعض كتبها التي هي من مناهج الإخوان، حيث قال عبدالعزيز بن باز: “الإخوان المسلمون وأنصار السنة كلاهما من الدعاة إلى الله، وكلاهما نرجو لهما الخير. (برنامج نور على الدرب)
وقد ذكر الشيخ الألباني ذلك: ” الإخوان المسلمون ليسوا من الفرق الضالة”. ومن أشهر كتب العقيدة عند الإخوان، كتاب (الإيمان) لمحمد نعيم ياسين و(العقيدة في الله) لعمر سليمان الأشقر، وفي الفقه (فقه السنة) للشيخ سيد سابق، وقد قدم الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا خدمة جليلة لمسند الإمام أحمد أكبر دواوين السنة في كتابه: (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)، حيث أثنى كثير من مشايخ السلف على هذه الكتب، وغيرها من مناهج الإخوان المسلمين، ولابد أن أؤكد أن مناهج العقيدة وأن العناية بالسنة النبوية وقبل ذلك دراسة القرآن الكريم، وتفاسيره، من كتب السلف، كل ذلك جزء لا يتجزأ من منهاج الإخوان المسلمين
المراجع
القرآن الكريم
في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري
مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، حسن البنا، ط 3، 1404ه، 1984م
بحوث مؤتمر مئوية الإمام البنا / المشروع الإصلاحي للإمام حسن البنا، مجموعة مشاركين، مركز الإعلام العربي، الهرم، الجيزة، مصر، ط2، 1429ه _ 2008 م
ذكريات لا مذكرات، عمر التلمساني، دار الطباعة والنشر الإسلامية، السيدة زينب، القاهرة
الدعوة قواعد وأصول، جمعة أمين عبد العزيز، دار الدعوة، الإسكندرية، ط2، 1409ه / 1989م
الملهم الموهوب حسن البنا، عمر التلمساني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة
أولويات الحركة الإسلامية، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 12، 1411ه / 1991م
الإخوان المسلمون، 70 عاما في الدعوة والتربية والجهاد، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة – القاهرة، ط1، 1430ه/ 1999م
منهاج التغيير عند الإمام حسن البنا، جمعة أمين عبد العزيز، دار الدعوة، ط2، 1423ه/ 2002م
مع العقيدة والحركة والمنهج، علي عبدالحليم محمود، دار الوفاء للطباعة والنشر المنصورة، ط2
برنامج نور على الدرب، عبد العزيز بن باز
لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم ( ابن منظور)، دار صادر، سنة 2003م
أضف تعليقاً