الإخوان المسلمون في سورية

ذكريات إخوانية

الأخ الذي قضى ردحاً من عمره في جماعة الإخوان المسلمين، يختزن في ذاكرته فيضاً من ذكريات حلوة طيبة لإخوان العقيدة والدعوة، تذكّر بالصلاح والتقوى، والتضحية والفداء، والحب والوفاء.

وفي هذه الزاوية ننشر ذكريات شتى لإخوة تحابّوا في الله على غير أرحام بينهم، لعلّ هذه الذكريات تجلّي صورة الإخوان في النفوس، وتشحذ العزائم.

طالب ضابط

تعرّفتُ إليه حين كنتُ مدرّساً في بعض المدارس الإعدادية في حلب.

كان غلاماً يافعاً، معتدل القامة، أبيض البشرة، مشرباً بحمرة، أشقر الشعر… يبدو من ملامحه ومن لباسه أنه من بيئة ريفية، أو من حي شعبي فقير… وليس هناك فرق كبير بين البيئة الريفية والأحياء الشعبية الفقيرة.

كانت عيناه الزرقاوان تشعّان ذكاء وصفاء، وكانت ابتسامته التي لا تكاد تفارق محيّاه، تنمّ عن طيب ومودة.

وكان مجِدّاً في دروسه، متفوقاً بعض التفوق بين أقرانه.

وكنا نلحظ أن معظم الطلاب المتفوقين أقرب إلى التدين والجدية والاستقامة السلوكية والخُلُقية…

ولا غرابة إذاً أن يلقَوا منا اهتماماً خاصاً. إنهم أسرع استجابة، وأكثر عطاءً وفعالية. ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم أعزّ الإسلام بأحد العُمرين” ؟. يريد عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبا جهل)، وما ذلك إلا لخصائص في شخصية الرجلين. وكان أن استجاب الله تعالى دعاء نبيّه صلى الله عليه وسلم، فهدى عمر بن الخطاب حتى صار فاروق الأمة، وبقي الآخر يحارب الإسلام حتى لفظ أنفاسه يوم الفرقان.

وهذا هو المعنى الذي أراده صلى الله عليه وسلم حين قال: “تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقُهوا”. رواه البخاري ومسلم.

والأمر ينسحب على أبناء الإسلام، فأذكاهم فؤاداً، وأزكاهم نفساً، وأصفاهم سريرة، وأوسعهم علماً… يكون أعظم تأثيراً في المجتمع.

اخترتُ مجموعة من التلاميذ، من بينهم عبد الله هذا، وكلهم على شاكلته ديناً وخُلقاً وذكاءً…

وكنتُ أجتمع بهم مرةً أو أكثر كل أسبوع، أُعينهم في دروسهم، وأعلّمهم تلاوة القرآن الكريم، وأوضّح لهم معاني في الإسلام يغفُل عنها عامة الناس، نتيجة الجهل الموروث، أو التجهيل المتعمّد الذي تمارسه أنظمة التعليم، وقنوات الثقافة التغريبية التي تعمل على نشر قيم ومفاهيم مناهضة للدين الحق، وتشكيل عقول أبناء الجيل ونفوسهم بعيداً عن الإيمان بالله واليوم الآخر، وعن المرجعية الدينية في معيار الخير والشر، والفضيلة والرذيلة.

وكانت اجتماعاتنا تتناول تفسيراً لآيات من القرآن الكريم، وشرحاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضاً لمواقف من سيرته الشريفة، وبياناً لأحكام فقهية تهم المسلم في صلاته وصيامه، وتعامله مع نفسه وأهله ومجتمعه.

وما كادت تمضي شهور العام الدراسي حتى بدا على هؤلاء التلاميذ أثر النمو التربوي، والتفتّح الذهني، والنضج العام.

وشاء الله أن ينتقل عملي إلى مكان بعيد، وأن يُوكل أمر هؤلاء التلاميذ إلى أخ آخر ليتابع الطريق… وبقيتْ بيني وبينهم صلات مودة وأخوة في الله، فكانوا يزورونني في بعض المناسبات، أو يرسلون إلي بطاقات المعايدة…

ومضت نحو ثلاث سنوات لم أجتمع فيها بعبد الله ولم أسمع أخباره.

وبينما كنتُ أسير في إحدى الأمسيات، في شارع القوتلي بحلب، قريباً من نقطة تقاطعه مع شارع بارون، شدت انتباهي كوكبة من طلاب الضباط بلباس الخروج الأنيق، والقفازات البيضاء، ونظرتُ نحوهم، والتقت عيناي بعينَي عبد الله، لكنه أشاح بوجهه متعمداً، وكأنه يريد أن يقطع عليّ الطريق أمام أي تحية أو حديث!. تفهّمت موقفه. لا شك أنه اختار أن يخدم دينه عبر دخول الجيش بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وإذاً لقد تمكّن أن يعبر إحدى العقبات الكأداء، وهي أن يستر انتماءَه الإسلامي ويتمكّن من الانخراط في الجيش “العقائدي”. وإنّ أهم مؤهل لهذا الانخراط أن يبدو طالب الانتساب متحللاً من الدين والأخلاق!.

قلت في نفسي: الحمد لله الذي مكّنه من عبور هذه البوابة الضيقة. ولكن كيف يستطيع أن يستر نفسه داخل الكلية العسكرية من غير أن يتحلل فعلاً من الدين والخلق؟!. أعانه الله.

ومضت على ذلك نحو ثلاث سنوات أخرى. كنت أسير كذلك في أحد الشوارع في وسط المدينة وإذ بعبد الله صاحبي، يناديني: أستاذ، أستاذ. ثم يصافحني ويعانقني، وقد تهلّل وجهه فرحاً، ثم ما لبث أن انفجرت دمعتان من عينيه: يا أستاذ أتذكرُ حين رأيتني قبل ثلاث سنوات؟! لقد أشحتُ بنظري عنك حتى لا ينكشف أمري أمام زملائي. إننا نتعامل فيما بيننا وكل منا يفترض أن زميله جاسوس عليه. وقد كنتُ طوال الفترة أداري تديّني، وأتخفّى بصلاتي، وأجامل رفاقي، وقد أقع في بعض الحرام، وأستغفر الله… كل ذلك من أجل استمراري في الجيش… لكن ذلك كله لم ينفعني، فالجو الذي نعيش فيه جو فاسد كل الفساد: التلفّظ بألفاظ الكفر، وشتم الله ورسوله ودينه، ثم معاقرة الخمر، وممارسة الزنا… ومن نجا من الوقوع في واحدة من هذه الموبقات وقع في غيرها…

فإذا احترز كثيراً حتى لا يقع فيها فهذه إدانة قوية له أمام أصحاب الأقلام السوداء: إنه إذاً من الإخوان المسلمين، وإلا فلماذا لا يسكر معنا؟ ولماذا يرفض مشاركتنا في ليالي الأُنس والترفيه؟ ولماذا يكفُّ لسانَه عن الكفر والبذاءة؟!… هذه التحفظات لا تكون إلا من الإخوان المسلمين.

وهكذا يا أستاذي حين حلّ موعد ترفيع الدورة إلى رتبة ملازم أول، صدرت قائمتان. الأولى تضم نحو ستين بالمئة من ضباط الدورة مع قرار بترفيعهم، والثانية تضم الباقين، مع قرار بتسريحهم… وكنتُ في هذه القائمة الثانية. لستُ نادماً بل أحتسب عند الله ما عانيتُ خلال هذه المدة وصبرت ابتغاء وجهه وخدمةً لدينه… وأستغفره سبحاته مما ترخّصت فيه، وكنتُ أقصد سترَ نفسي.

* * *

بعد شهور قليلة كانت قوات الفرقة الثالثة مع مئات الدبابات والمدرعات وما يتبعها من مجموعات المشاة وأسلحتها وتجهيزاتها… تطوق مدينة حلب وتقوم بعملية التمشيط.

كان في يدي مذياع صغير. وسبحان الله، استوقفني صوت منه وأنا أدير إبرته على موجات الـFM. سمعتُ خطاباً من بعض الضباط الذين تمكنوا من احتلال حلب! يخاطب قائده: “سيدي. لقد تصدّينا لمقاومة عنيفة. قُتِل منا أربعة، وجُرح سبعة. لكننا في النهاية استطعنا أن نقتل المجرم، إنه شاب أبيض أشقر ممتلئ الجسم… في جيبه هوية تحمل اسم عبد الله… “.

رحمك الله يا عبد الله، وتقبّلك شهيداً.

محمد عادل فارس