الإخوان المسلمون في سورية

إحياء فقه الأخوة في الله

تمهيد ومدخل:

الوحدة قوة، وعز ونصر، وسلاح عظيم نواجه به أعدائنا، ونحقق من خلاله مرادنا وأهدافنا، اجتماع الكلمة سبيل من سبل الوصول إلى آخر الطريق بأمان وسلام، رص الصفوف سياج عال، نحمي به مشاريعنا، وندفع عنها غائلة الشر، وتراتيب السوء.
يقول الشيخ الغزالي، في كتابه (خلق المسلم ص 165): [وهذه الأخوة هي روح الإيمان الحي، ولباب المشاعر الرقيقة، التي يكنها السلم لإخوانه، حتى إنه ليحيا بهم، ويحيا لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو روح واحد حل في أجسام متعددة] إ.هـ
لم شملنا، تعبير عملي، على جسدية هذه الأمة، وأنها أمة واحدة، بكل ما في حامل الكلمة من معنى، وما في سلتها من قيم ومبادئ.
(مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، كمثل الجسد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
ما أعظم هذا القانون الرباني، الذي يضع النقاط على الحروف، ويرسم معالم الحقيقة بأبعادها كلها، من البعد الإيماني، إلى بعد السياسة والاجتماع، إلى بعد النواتج الطيبة، والمآلات المباركة، وبتحققه تزهر الحياة خيراً ونوراً، ويخنس الشيطان.
أيها الإخوة، نحن إخوة ((إنما المؤمنون إخوة))، وهذه منحنة إلهية، وهبة ربانية، وهدية قدسية، ونفحة إلهية، وبركة نبوية، وهذه الأخوة فريضة شرعية، وحاجة إنسانية، وضرورة واقعية، ومنهجية حضارية، وقاعدة قيمية، وثقافة سماوية، وحركية إيجابية، وسيرة بنائية.
((لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم)).
وحدتنا شوكة في أعين عدونا الذي يتربص بنا الدوائر، ويذبح شعبنا من الوريد إلى الوريد، وهي منارة الإشعاع لكل من أراد اللحاق بركب، من تجردوا من حظوظ نفوسهم، ليكونوا على درب الثورة بصدق.
وحدة الكلمة، هي المقدمة الصحيحة، التي تحدث النتائج المرجوة، على درب العدل والحرية وحقوق الإنسان، فالعدل جماع الحسنات، والظلم جماع السيئات.
وحدة الأرواح قبل الأشباح، مشاعل النور، ومراكز المؤشرات الصالحة على حسن السير، وسلامة المشوار.
((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله، صفاً كأنهم بنيان مرصوص)).

خطر الفرقة:

وبقدر ما في الأخوة من خير، بقدر ما في نقيضها من شر.
فالفرقة ويلٌ وثُبور، وكارثة وطامَّة ومَهلَكة، وما ابتُلي قوم ولا امتُحنت جماعة بمثل الفُرقة، ولا هلَك تجمُّع بأخطرَ مِن الفُرقة، وهي علامة شرٍّ، ونُقطة سوء، وسبب في انتشار كثير من الأمراض والأوبئة الاجتماعية والسياسية والحركية والحزبية، وبفعلها وأثرها المُدمِّر وقعت مآسٍ فظيعة، وحدَثت أمور مُذهِلة، ونتجتْ نتيجتَها وقائعُ يَندى لها الجَبين.
بادَتْ أمم، تمزَّقتْ دول، وأُهلِكتْ مُجتمَعات، وضلَّت جماعات، وسقَطتْ حَضارات؛ أخٌ قتَل أخاه، شقي قضى على أبيه، فالفُرقة كلها شرٌّ.
والإسلام مِن أيامه الأولى، ربَّى أتباعه على بغض الفُرقة وذمِّها، ودعاهم إلى نبذها والحذَر مِن شرِّها، وحثَّهم على الوحدة والائتلاف، والأُخوَّة والمحبَّة، وأن يكونوا أمةً واحدةً، كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى.
قال تعالى: ((وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)) [المؤمنون: 52]، وقال تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) [الأنفال: 46].
واعتبَر كل مسلم أخًا للمسلم؛ قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [الحجرات: 10]، وجعل دعائم لهذه الأُخوة لا يجوز للمسلم أن يَخترقها، ووضع لها أصولاً يجب أن تُراعى، وضبَط لها أخلاقًا أوجب الالتزام بها، ورسَم لها طرائق حتَّم على المؤمن أن يَسير عليها، وأن يترسَّم خُطاها.
وحذَّر الإسلام مِن أي شيء يُعكِّر صَفوها، وحرَّم كل أمر يَتنافى مع وقوعها وحُصولها وتمثلها في حياة فاعلة ومُتحرِّكة؛ فحرَّم الإسلام أن يَبيع المسلم على بيع أخيه، وأن يسوم على سَومه، وأن يخطب على خِطبته، وأن يغتابه، وأن يَنم عليه، وأن يؤذيه ولو بشَطر كلمة، وأن يَكشف له سترًا، إلى غير ذلك من الآداب والأخلاق التي فُصِّلت في مواضعها، ولا مجال للتفصيل بها هنا.
ففي الحديث المتَّفق عليه، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- قال: (لا تباغَضوا ولا تحاسَدوا، ولا تَدابَروا، ولا تقاطَعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يَهجر أخاه فوق ثلاث).
وفي الحديث المتَّفق على صحَّته، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله…) الحديث، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أُظلُّهم في ظِلي، يوم لا ظلَّ إلا ظِلي)).
وتربَّى الجيل الرباني الأول على هذه المائدة الطيبة المباركة، برعاية رسول الله ونظره ومُتابعتِه وعنايته، حتى صنع ذلك الجيل القرآني الفريد، الذي كان نموذجًا يُحتذى إلى يوم الدين، بما كان عليه مِن تربية وإيمان، وتُقى وصلاح ودين، وأداء وعطاء، وبذل وتضحية.
ذلك الجيل الذي ظهرت فيه معاني الوحدة والألفة بكل معانيها، وسائر شُعَبها ومبانيها، حتى صار مَضرِب المثل في هذه الأشياء، بحيث لو اطَّلع عليها الدُّنيويُّون الماديون، لحكموا عليها أنها مِن نسْج الخيال، وأحلام الفلاسِفة.
والحق أنها صورة واقعية، تَحمِل في طياتها كلَّ معالم الصدق؛ لأن هذه الجماعة تربَّت على هذه المعاني الربانية، والفضائل الإحسانيَّة، حتى وُصِفوا بالكرم الواسع، والإيثار المُدهِش حقًّا، فصار الواحد منهم يحب لأخيه ما يُحبُّه لنفسه، بل ربما قدَّم أخاه على نفسه، وهنا يَكمن الفارق، ويَحصُل التمايُز، وتظهر المعادن.
وهذا الأمر العظيم، ظهر أيام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما ذَكرْنا وأكثر، وامتدَّ هذا الخير إلى أيام الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- وإلى مَن بعدهم، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين، بحكم خلود هذا الدِّين، وبقاء الأمة، واستِمرار هذا الفضل.
نعم، الأمور ليست على سوية واحدة، ونمَط ثابِت، ولا تمضي على وتيرة مُتوازِنة لا تتخلَّف؛ ففي التاريخ هفوات وسقطات وعثرات، بحكم الطبيعة البشرية؛ إذ لا عصمة لأحد بعد نبيِّنا ورسولنا -عليه الصلاة والسلام- ولكنَّ الحديث عن وصف العموم، دون النظر إلى حالة الاستثناء؛ إذ لكل جواد كبوة، وفي بعض الأحيان تكون الكبوة من المؤمن، فيتوب ويؤوب ويعود إلى الله تعالى.
فالحذر كل الحذر من الفرقة، فآثارها خطيرة، ونتائجها كارثية وبيلة.

من فضائل الأخوة في الله:

وهنا لا بد من وضع النقاط على الحروف، لتفصيل بعض فضائل هذه الأخوة، وبيان محاسنها، وانعكاسها على واقع الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة، مع ربط بالسياسة الشرعية لهذه الأخوة، في سائر مناحي الحياة، فالأخوة، دين ودنيا، مع الجمع بينهما في تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، من خلال فقه حضاري رائد، صنعت من خلاله أمة من الناس، صارت مضرب المثل، وموضع الأمل، ومعقد النجاة، لتأتي في كل زمان ومكان، مؤكدة على ضرورة إحياء هذا الفقه بعمقه الصحيح، وبأبعاده كافة، حتى تزهر الحياة، بحركتها الجديدة، خصوصاً في عالم المغالبة، والجشع المادي، واللهاث المالي، والسعار الطيني، والانهيار الأخلاقي، والتعلق بقيم الوحل، حيث أدت مثل هذه الحالة، إلى انزلاق في مستنقعات البحث عن اللذة الآنية، والتركيز على معاني الأنا، والصيرورة إلى تربية الانكفاء على الذات.
بل وجدت فلسفات تلذذية، تدعو إلى النفعية هنا لا نعني مذهب الإنكليزي، جيرمي بينتام، صاحب المذهب المشهور، في النفعية، فللكلام بحث آخر، ليس هذا مكانه- التي تؤكد على إرضاء، تفضيلات الفرد، بكل أبعادها، وسائر مقوماتها، تأكيداً على الوعي بالأنا، كما يحلو لهم أن يعبروا عن هذه الحالة، من عشق النفس، وتضخم الذات، وتقديس المصلحة الشخصية، وتقديمها على كل مصلحة، ليحدث مرض ( النرجسية) في عنفوان اضطرابها المرضي، وقمة بروزها اللهثي، ويتمثل ذلك بسلوك عدواني، مفاده: أنا أو الطوفان، فلا يبحث عن شيء إلاّ إذا كان في هذه الدائرة، بغض النظر عما يحدث للآخرين، فهذا ليس له به شأن، حتى لو وصل الأمر إلى أقرب المقربين، فيتحول الناس إلى حياة بعض الكائنات، التي تعيش على مص دماء بعضها، ولو كانت التي ولدتها، وربتها وسهرت على راحتها.
في خضم معمعة كهذه، يأتي فقه الأخوة، بفضله، وخيره، وربانيته، ونوره، وبهائه، وبركته، وتاريخه المشرف، وصفحاته المشرقة، الفقه الذي صنع جيل المحبة، وجيل الإيثار، وجيل التفاني من أجل الآخرين، جيل النكران للذات، والبهجة في حب الخير لأخيه، مثل ما يحبه لنفسه، جيل يرتفع بالهمة، حتى لا يخذل أخاه، ولا يسلمه، جيل الاحترام لمشاعر الآخرين، فلا يعرف اللمز ولا الغمز، ولا يسخر فيه قوم من قوم، ولا نساء من نساء، جيل المحبة المجردة عن الغرض والمصلحة، جيل الصفاء في النظر إلى النظير، جيل الثقة في التعامل مع المثيل، جيل الحضارة الإنسانية، وحقوقها الربانية، إنه جيل الأخوة الذي صنع ويصنع النصر، في كل عصر ومصر. إنها مدرسة الأخوة، منهاجها كتاب الله، قائدها وقدوتها محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين والصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعاً، الجيل الأول الذي تخرج في هذه المدرسة، ورسم معالم العمل فيها، على أرض الواقع، وكان بحق أفضل جيل حمل هذه الأمانة، وأروع قرن ترجم هذه المبادئ، واقعاً معاشاً في ميادين الحياة وسُوح العمل، وبهذا صاروا كالنجوم، بها يقتدى، على ضوء هديهم يهتدى، فكانوا منارات الرسوخ في تطبيق هذه المعاني، التي ظن الظانون أنها ربما كانت من نسج خيال فيلسوف، على منوال المدينة الفاضلة، وفي النظر الصحيح والنقل الموثق الأكيد، يتبين أن ليس كذلك، بل هو واقع عاشته هذه الجماعة المباركة، التي ما عرفت الفلسفة ولا تداولتها، ولا قلبت صفحاتها في معهد أو جامعة، ولكنها تلقتها تربية إيمانية، من خلال نصوص وحي، وتربية المربي الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وإشرافه، والتربية بالأحداث، حولتها إلى قواعد اجتماع، ومناهج حياة، لا أخيلة فيها، بل كل مفردة من مفردات سياقاتها، تحكي قصة بناء شامخ، دارت عليه كثير من تراتيب المصالح، في المقاصد الشرعية، ودفع للمفاسد، في سداه ولحمته، نسجت على منوال الطاعة والقربى إلى الله تعالى، والبحث عن رضوانه، حتى لا يبقى للشيطان مدخل خرم إبرة يلج فيه ليهدم، كل ذلك، بخاصية التلقي للتنفيذ .

ومن فضل مدرسة الأخوة:

أنَّ المتحابين في الله يكونون في ظلّ عرش الله في وقت تدْنو الشَّمس من الرُّؤوس، ويَسبح الناس في عرقهم؛ ففي الحديث الصحيح، عن أبِي هُريرة عن النَّبيّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: (سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه)، وذكر من بينها: (ورجُلَين تحابَّا في الله – عزَّ وجلَّ – اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه).
وعن أبي هريرة عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: أين المتحابُّون في جلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلِّي).
من هذا النص ندرك تمام الإدراك أن الأخوة الصادقة، بفقهها الصحيح، سبيل من سبل النجاة يوم لقاء الله تعالى، وباب من أبواب العبودية، ومنهج من مناهج القربى إلى الله تعالى، وطريق من طرق جمع الحسنات، وفي هذا دلالة على ضرورة التمسك بها، والعمل على التحقق بمعانيها، والعض على مناهجها بالنواجذ، ومن الحمق التفريط بها، ومن الكارثة في حق الفرد والجماعة، أن لا نسعى لنكون من أصحابها.
نافذة من نوافذ الرحمن فتحت لك يا عبد الله، فلا تغلقها بتلاعب الشيطان وأحابيله وخطواته، فيزين لك غيرها، ويدعوك لسواها، فتفرق بك وبغيرك السبل، ونجني عكس المراد.
من هنا جعل الإمام البنا – رحمه الله تعالى- الأخوة ركناً من أركان الدعوة، وسبيلاً من سبل تكوين الأخ المسلم، لأنه بدونها، فالتربية فيها خلل، والمرء يكون على طريق الزلل، والصف في خطر، وبرامج العمل مهددة بطول الأمل، والمناهج تحتاج إلى سد النقص.
وهؤلاء هم الذين سيكونون على منابر من نور، يغبطون عليها.
فعن ابنِ عمر – رضِي الله عنْهُما – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: (إنَّ لله عبادًا ليْسوا بأنبِياء ولا شهداء، يغبطُهُم الشهداء والنبيُّون يوم القيامة؛ لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منْه)، فجثا أعرابيٌّ على ركبتَيه فقال: يا رسول الله، صفْهم لنا وجلّهم لنا. قال: (قوم من أفناء النَّاس من نزَّاع القبائل، تصادقوا في الله وتحابّوا فيه، يضَع الله – عزَّ وجلَّ – لهم يوْم القيامة منابرَ من نورٍ، يَخاف النَّاسُ ولا يخافون، هم أولياء الله – عزَّ وجلَّ – الَّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). أخرجه الحاكِم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
ثانيها: أنها نعمة من نعم الله تعالى، ومنة من مننه العظيمة، على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة، بل والإنسانية: لأن خيرها يعود على كل هؤلاء بالنفع الكبير، والفوائد الوفيرة، ويحقق السلم الاجتماعي بكل مفاهيمه، وسائر تشكيلاته،
وهذا بنفس الوقت، يتكون من خلال التربية، التي تقوم على مبدأ (المراقبة الذاتية)، في صناعة الصلاح بمفهومه الشامل، وانسحاباته كلها، ولو كان الإنسان بعيداً عن رقابة البشر، وخارج سيطرتهم، ومن هنا يتكون جيل البناء، الذي يمن الله به على عباده، من خلال منحته لهم (بالأخوة)، وتفضله عليهم بها.
قال الله تبارك وتعالى:
((فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)) [الأنفال: 62، 63].
يقول صاحب «الظلال» معلِّقًا على هذه الآية: «حسبك الله، فهو كافيك، وهو الَّذي أيَّدك بنصْرِه أوَّل مرَّة، وأيَّدك بالمؤمنين الَّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوَّة موحَّدة، بعد أن كانت قلوبهم شتَّى، وعداواتُهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدًا، سواء كان المقصود هم الأوْس والخزرج – وهم الأنصار – فقد كان بينهم في الجاهلية من الثَّارات والدِّماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتِئام، فضلاً عن هذا الإخاء الَّذي لم تَعرف له الأرض نظيرًا ولا شبيهًا، أو كان المقصود هم المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهليَّة، أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعًا! ولقد وقعت المعجِزة الَّتي لا يقدر عليها إلاَّ الله، والَّتي لا تصنعها إلاَّ هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النَّافرة، وهذه الطِّباع الشَّموس، إلى هذه الكُتْلة المتراصَّة المتآخية الذَّلول بعضها لبعض، المحبّ بعضها لبعض، المتآلِف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الَّذي لم يعرفه التاريخ، كما تشهد الأمَّة التي بناها على الحبّ أنَّها لم تكن مجرَّد كلمات مجنَّحة، ولا مجرَّد أعمال مثاليَّة فردية، إنَّما كانت واقعًا شامخًا قام على هذا الأساس الثَّابت، بإذن الله، الَّذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه».اهـ.
وامتن الله تعالى على المسلمين بهذه الرابطة العظيمة فقال: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) (103 آل عمران).
فتحولت الحياة بنعمة الأخوة من البغضاء إلى المحبة، ومن الفرقة إلى الاجتماع، ومن العداوة إلى الألفة، ومن الأنانية والحسد إلى الإيثار والمودة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الجاهلية إلى الهدى، ومن تضخم الذات وتورمها، إلى البذل والتواضع، ومن الهدم إلى البناء، ومن التصارع إلى التكامل، ومن الانكفاء على الذات، إلى لغة العمل الجماعي، ومن التقوقع بكل شعبة ، إلى الانفتاح، الذي ينضبط بضوابط الثابت والمتحول ، فتثمر الحياة خيراً، ويكون الشهود الحضاري، منارة صدق، في عالم يتماوج بأفعال العماوة، وركائز العدوان، وظلامية التعاطي الإنساني.
وكان ذلك أولاً متمثلاً بوجود الجيل الأول، جيل القدوة، الجيل الرباني الفريد، جيل الصحابة- رضي الله عنهم- وتعاقبت الأجيال حاملة ذات المنهج، وإن تفاوتت النسب، لكنه لا يخلو زمان من هؤلاء الربانيين، الذي يمضون على نفس الطريق، ويتربون على قواعد هذه المدرسة.

بوارق:

– الأخوة في الله، باب من أبواب الطاعة لله، فلا تفرط فيها، واغتنم فرصتها، لتكون من أولياء الله.
– اخذل الشيطان، بحب إخوانك في الله، ولا تترك له فرصة التلاعب بك، أو بصف الجماعة المسلمة.
– تحقق بفقه الأخوة الحضاري، لبناء الحياة وصناعتها على قيم الفضيلة.
– اللهث وراء مكاسب الذات وعشقها، وتورم الأنا، عالجه بفقه الأخوة.
– لا جماعة بلا أخوة، ولا أخوة بلا سلوك عملي، يترجم الفقه إلى واقع.

الدكتور عامر أبو سلامة

مفكر وكاتب إسلامي