في كل وقت وحين، وفي أيام المحن والشدائد خاصة، يلجأ المسلم إلى حمى الله، ويتقرب إليه بالعبادة والتوبة والاستغفار والذكر، ولا ذكر أعظم من تلاوة كلام الله تعالى.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: “إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فاقبلوا مَأدُبَتَه ما استطعتم. إنّ هذا القرآن حبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتبعه. لا يزيغ فيُسْتَعْتَب، ولا يَعوَجُّ فيُقوَّم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلُقُ من كثرة الردّ. اتلوه فإنّ الله يأجُرُكم على تلاوته، كلّ حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن: ألِفٌ حرف، ولام حرف، وميم حرف”. رواه الحاكم، وهو صحيح.
فالقرآن الكريم مَأدُبَة الله تعالى لخلقه، حوى أطايب الكلام ومحاسن الأقوال، ومَن أحسنُ من الله قولاً.
والمآدب تحوي ألواناً عديدة يختار المرء منها ما تشتهيه نفسه، وتلذّ به عينه، ولا غرو فالقرآن الكريم كلام الله المعجز الذي نزل به جبريل عليه السلام على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس رسالة من ربهم، وسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم.
يجد فيه الحكيم الحكمة، والعالم العلم، والمؤرّخ التاريخ، والمؤدّب الأدب، والواعظ الموعظة، والسياسي السياسة. فيه كل لون من أطياف الحياة الممتدة في ثنايا الكون.
و”من قرأ القرآن فاستظهره، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله الجنّة”. رواه ابن ماجه والترمذي واللفظ له.
فقراءة القرآن عبادة.. وكأنما قارئه يُناجي ربّه..
فيه آيات بيّنات، ودلائل واضحات، وأخبار صادقة، ومواعظ رائعة، وشرائع راقية، وآداب عالية بعبارات تأخذ الألباب، أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه قومه، فملأ عقولهم وسحر قلوبهم.
وقد نقل ابن هشام في سيرته عن الزّهري أنّه حُدّث: أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شُريق الثقفي خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي في الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرة، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شُريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرْني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعتَ من محمّد؟ فقال يا أبا ثعلبة: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد منها، وسمعتُ أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها.
قال الأخنس: وأنا، والذي حلفتَ به، كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيكَ بما سمعتَ من محمّد؟ فقال: ماذا سمعتُ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ، أطعموا فأطعمنا، وحَمَلوا فحملنا، وأعطَوْا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفَرَسيْ رهان، قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثلَ هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
هذا هو الكتاب الخالد الذي لا تبديل لكلماته، ولا ناسخ لأحكامه، ولا ناقض لخبرِه ﴿إنّا نحْنُ نزّلْنَا الذّكْرَ وإنّا لهُ لَحَافِظُون﴾. {سورة الحجر: 9}، فمن أخذ به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضلّ وهوى.
وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى القراءة المتأنية فقال عزّ من قائل: ﴿وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتيلاً﴾. {سورة المزمل: 4}. لتساعدنا هذه القراءة على التدبّر والفهم وحضور القلب لأن المقصود من القراءة التعرف على آيات الله وجلاله، وحلاله وحرامه.
وهذا لا يكون إلا بالتدبر، لذا يقول تبارك وتعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرْآنَ﴾. {سورة النساء: 82}. وبالتدبر والفهم وحضور القلب تتولّد الطاقة المحرّكة، والدافع المولد للعمل والشعور بجلال الله وعظمته…
وبدون هذا الفهم وهذا الحضور يكون القلب مغلقاً… ﴿أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا﴾. {سورة محمد: 24}.
فلا يحسُن أن يمر يوم من أيام المسلم ويخلو من النظر في المصحف ليُعطي العين حظّها منه،ويتلو جزءاً من أجزائه الثلاثين،في أقل تقدير، وإلا فإن أهل الهمم العالية،وأصحاب التذوق لكلام الله يقرؤون كل يوم جزأين أو ثلاثة أو خمسة …
وقراءة القرآن عبادة بدنية تشارك فيها العين واللسان، لأنّ النطق بالقراءة شرط لصحتها وخاصة في الصلاة (في السرية تسمع نفسك، وفي الجهرية تسمع غيرك قدر الحاجة).
وهي أيضاً عبادة قلبية، تُشارك فيها النفس والفكر والوجدان والعقل.
واحتراماً لكلام الله عزّ وجل وتعظيماً لشأنه أوجب علينا القرآن أن نستمع وننصت حين قراءته ﴿وَإذَا قُرِئ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. {سورة الأعراف: 204}.
وإنّ أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، تحبهم وتستمع لقراءتهم الملائكة، وتحيط بمجموعهم، تقديراً لهم وتشريفاً لكتاب الله عزّ وجل وتمجيداً لذكره.
فمَن ذكَر الله في نفسه ذكره الله في نفسه.
ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منهم.
فكونوا من أهل القرآن ودوروا مع القرآن حيث دار.
والبخيل من يبخل على نفسه.. ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحّ نفْسِهِ فأولئكَ هُمُ المُفلحون﴾. {سورة الحشر: 9}.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن يختم القرآن في كل سبع. متفق عليه.
وحين يقرأ المسلم القرآن يشعر – وبكل خشوع وخضوع للقلب – كأنّ هذه الآيات تتنزّل عليه الآن ولأول مرة ،لأنّ القرآن كما قال عليه الصلاة والسلام: “لا تنقضي عجائبه ولا يَخلُقُ من كثرة الردّ…”.
كان (إقبال)، الفيلسوف المسلم، يواظب على قراءة القرآن، وفي كل يوم يدخل عليه والده ويسأله: ماذا تفعل يا بُني؟! فيقول الشاب المؤمن: إنّي أقرأ القرآن يا أبتاه.
واستمرت الحال على هذا المنوال ثلاث سنوات مما دفع الشاب أن يسأل والده عن سرّ سؤاله فيقول الأب: اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك الآن.
أثر التلاوة على السلوك وتزكية النفوس
وحين يطلب القرآن منّا أن نتدبّره ونتفهمه إنما من أجل أن يظهرأثره في سلوكنا ويحفزنا على تكييف هذا السلوك حسب قيم القرآن وآدابه وسننه..
وإلا فما الفائدة إذاً من قراءة القرآن، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وذلك حين يُخالف سلوك القارئ تعاليم القرآن.
فإذا قرأ المسلم: ﴿ولا تجْعَلْني مَعَ القَوْمِ الظّالمينَ﴾. {سورة الأعراف: 150}.
يجب أن يتمثّل القارئ عاقبة الظلم ومصير الظالمين ليكون بعيداً عن هذا السلوك الذي يتعارض وقيم الإسلام.
وحين نقرأ: ﴿وقالوا ربّنَا إنّا أطَعْنَا سَادَتَنا وكُبراءنا فأضلّونا السبيلا. ربّنا آتهم ضعفينِ من العذابِ والْعَنْهم لعناً كبيراً﴾. {سورة الأحزاب: 67-68}. يعرف المسلم القارئ أنه يجب مقتُ الضالين والمضلّين الذين ينحرفون بمجتمعاتهم عن الإسلام وآدابه ومبادئه، ويزرعون في المجتمع مبادئ الشر والفساد، فالمؤمن كيّس فطن يعي ما حوله ويعرف ما يُراد به، فليس إمّعة يدور مع الآخرين كما يدورون.
وحين يسمع نداء الله عزّ وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مَعَ الصّادقين﴾. {سورة التوبة: 119}. يعلم تماماً أن الصدق فضيلة وأن الكذب رذيلة، وأن التقوى ومخافة الله تعالى طاعة، وأن الانحراف معصية، وأن مصاحبة أهل التقوى والصدق والصلاح طريق رضوان الله.
وحين يقرأ: ﴿فقلتُ استغفروا ربّكمْ إنّه كان غفّاراً. يُرْسِلِ السّمَاءَ عليكمْ مِدراراً﴾. {سورة نوح: 11}.
فعليه أن يعرف أن ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، فيلجأ إلى الاستغفار بعد كل خطيئة، وفي كل وقت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرة”. رواه مسلم.
وحين تقرأ قوله تعالى: ﴿إنّ الذين توفّاهمُ الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنّا مُستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرضُ الله واسعة فتهاجروا فيها﴾. {سورة النساء: 97}.
تعلم أن المسلم لا يجوز له أن يرضى بالدنيّة بل يقاوم الظلم والظالمين، مطالباً بالعزّة ومدافعاً عن الكرامة، لأنّ العزة لله ولرسوله والمؤمنين.
وإذا قرأنا قوله تعالى: ﴿ومَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤتوا الزّكاة وذلك دينُ القيّمة﴾. {سورة البينة: 5}.
علمنا أن أيّة لوثة من الشرك والرياء والنفاق تشوب عمل المسلم تحرمه الأجر والثواب، لأن العمل لا قيمة له إلا بالإخلاص الكامل لله عزّ وجل، وأن على المسلم تبعات تجاه دينه وعليه أن يتحملها بقوة ونشاط.
وهكذا يتعلم المسلم من القرآن الكريم مبادئ الأحكام والنظر في الآيات ليكون سلوكه متميزاً في هذه الحياة التي يحيط بها الظلام من كل جانب.
كذلك كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعامله مع القرآن فحين سُئلت عائشة رضي الله تعالى عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: “كان خلقه القرآن”، حديث صحيح ذكره الألباني في صحيح الجامع.
والمسلم بسلوكياته القرآنية وآدابه النبوية يصبح كأنه قرآن يمشي على الأرض.
وبهذا القرآن وبحسن تلاوته والتمثل بسلوكياته يرتقي الإنسان ويُصبح قريباً من الله عزّ وجل.
عن أنس صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّ لله أهلين من الناس”. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: “أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته”. ﴿صِبغَةَ الله ومنْ أحسنُ منَ اللهِ صِبغَةً ونحنُ لهُ عابدونَ﴾. {سورة البقرة: 138}. رواه النسائي وابن ماجه والحاكم وإسناده صحيح.