د. محمد خازر المجالي
قرأت تصريحا لشيخ الأزهر حول مفهوم التجديد، ولماذا تبنى الأزهر مذهب الأشاعرة، وصرح بأن القدرة على التجديد الذاتي هي الوجه الآخر لمعنى صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وإلا ما استطاع هذا الدين أن ينتشر في العالم، أما دعوات التجديد التي هي أقرب إلى تمييع الدين فليست هي المقصودة بالتجديد. أما تبني المذهب الأشعري فعلاج لأمراض أصابت الفكر الديني بسبب فرض المذهب الواحد والرأي الواحد، فشريعة الإسلام تأسست على التعددية واحترام حرية الرأي والاختلاف.
لطالما كتبت وكتب آخرون حول أهمية التعددية المبنية على أسس سليمة، وضرورة وجود احترام بين أتباع كل رأي واجتهاد، وقلت إن الله تعالى شاء لكتابه أن يُقرَأ على أكثر من وجه، فيما نسميه القراءات العشر، وأحياناً يختلف معنى الكلمة، وبالتالي يختلف معنى الآية، من دون تضاد في المعنى، وهو القرآن الأقدس فيما في أيدي المسلمين، فمن باب أولى أن يكون هناك اختلاف في مسائل كثيرة شاءها الله ابتداء، أو هي نتيجة طبيعية لاختلاف أفهام البشر، وطبيعة النصوص الحمالة لأكثر من وجه في الفهم.
حين نعلم هذا، ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد أقر الصحابة على اختلافهم، وكانت هذه مسألة اعتيادية عاشها الصحابة والسلف عموماً، واستمرت إلى يومنا هذا، فالتنوع الحاصل في الفهم ظاهرة صحية ينبغي احترامها والعيش في ظلها، فهي سنة الحياة أن يكون الاختلاف والتعدد والتنوع، وفي هذا ملاءمة للفطرة، وحث للعقل على الاجتهاد والإبداع، وتعويد للنفس أن تحترم الآخر وتلتمس له العذر، وإلا ضاقت الحياة، وكثر التنازع، وجمد العقل، وربما قاد هذا إلى شحناء وبغضاء وما لا تُحمد عقباه.
يهمني من تصريح شيخ الأزهر أن تبني المذهب الأشعري كان علاجاً لشيوع أحادية التوجه، فهو حل لمشكلة التفرد في تبني مذهب محدد، جاء توسعة للفكر ليس إلا، فما بال أقوام الآن يريدون فرض المذهب الأشعري ونفي ما سواه!؟ فيريدون العودة إلى المرض الذي جاء الأزهر ليعالجه، ولكن بتبادل الأدوار، وإعادة الحمق إياه الذي ساد.
التعددية الفكرية والفقهية والمذهبية (في إطار أهل السنة) هي الحل لكثير من التشنجات التي ننشغل بها وتفرقنا ونتنازع بسببها، كتبت يوماً عما شاهدته في أحد مساجد عمان، وقد شرح الإمام لتلاميذه عقيدة السلف، وما سواها باطل، وهو مكتوب على لوح بجانب المحراب، ووضع منبراً صغيراً بثلاث درجات بجانب المنبر الأصلي العالي، وسمعت يوماً في أحد المساجد درساً للإمام وهو يتكلم مع عوام عن قضايا لا يفهمها إلا متخصصون في صلب مسائل العقيدة، وفق منهجي (سلفي) يقصي الآخر، وسمعت وشاهدت مقاطع لبعض مرجعيات الأشاعرة في الأردن، يخوضون في الشيء نفسه، مسائل لا تضر ولا تنفع، واستعداء للمذهب الآخر وشتم لرموز سلفية، واستهزاء بمرجعيات وأفهام أقل ما يقال فيها إن عليها بعض، إن لم أقل كثير من السلف، وهكذا يضيع جهدنا، ويتشتت المسلمون وخاصة شبابنا، ويتعصب كل فريق لرأيه، ولا نرى على أرض الواقع إصلاحاً ولا تجديداً لفكرة الدين، بل قتلا لأي أمل يحدونا في أن نرتقي وننهض ونتحضر.
المشكلة أن جهات متنفذة اليوم هي التي ترعى دعم مذهب على حساب آخر، والحمقى من الجهتين وغيرهما موجودون متعصبون متحفزون للانتصار لفكرتهم، ومعاداة الآخر، والحقيقة أن الدين وسع هؤلاء جميعاً، لو أنهم قدموا سماحة الإسلام، ومقاصد الإسلام، وأهدافه البعيدة العالمية.
الإسلام أعظم من أن نحصره في فكر الرازي أو ابن تيمية، وأرحم من أن نقصره على أتباع مذهب دون آخر، فقهياً أو عقدياً، بل إن الإسلام أرحم منا بالآخر غير المسلم، حين تعصبنا ونسينا بعض المسلمين الذين جنحوا إلى الإلحاد وتاهوا في الضلال، ونسينا أيضاً أن غير المسلمين فيهم فطرة سليمة، ونحن مأمورون بدعوتهم والشفقة عليهم وترغيبهم بهذا الدين.
حين يكون التعصب فهو الحمق والتخلف لا محالة، وإن رضيت التعصب فلأصول هذا الدين لا فروعه، وأصوله هي أركانه المعروفة، إيمانياً وإسلامياً، وبدهيات الحياة التي لا يجادل فيها أحد، وقطعي الدلالة والثبوت من النصوص، وما عليه إجماع الأمة أو العلماء المتخصصون، وما سوى ذلك فقابل لتعدد الأفهام، وبالتالي لتعدد التطبيق، وكل ذلك له دليله ووجه استنباطه.
الأمة بحاجة إلى شيوع مفهوم التعدد وثقافة احترام الرأي الآخر، وحين قال بعضهم: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) فلهذه البحبوحة التي نتطلع إليها، ولهذا الحق الذي ينبغي أن نبقى نبحث عنه، فالحق أحق أن يُتّبع، وقد يتعدد الحق، ويبقى كل واحد يسير على منهجه ومذهبه، لا يعنّف الآخر، ولا يزدريه ويحتقره، لأن هذا سيقود حتماً إلى تبديع وتضليل وتكفير، وربما تحليل دم وفوضى لا يعلمها إلا الله.
وجدت عبارات كثيرة في محاضرات أتباع المذهبين الرئيسين (سلف وأشاعرة) هي إقصائية استهزائية، وربما تكفيرية، وجدير بكل حريص على الإسلام: أكاديمياً ودعوياً ورسمياً وأمنياً وثقافة أن تتغير النظرة، نحب هذا عالمياً، ونريده أردنياً لأن ثقافة التعصب وازدراء الآخر تنتشر رسمياً، وهو توجه خطير، ونذير فرقة وكراهية نحن في غنى عنها، فلطالما تغنينا بالتعايش مع الآخر (غير المسلم)، ونحن ننادي بها للتعايش فيما بيننا نحن المسلمين، وأولى بهذه الشعارات.
وما قلته ينطبق بالضرورة على التوجهات الإسلامية الفكرية والدعوية، حيث الجماعات والأحزاب، ورأيي أنها يكمل بعضها بعضاً، وتلبي نزعات وميولاً هي في الإنسان، فلا أستطيع إجباره على توجه ما، والأصل الاحترام وحسن الظن والتماس العذر، وهي أخلاق الكبار، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، وصدق الله: “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
الغد الأردنية