الإخوان المسلمون في سورية

الإسلاميون.. وفقه التقويم (1)

د. عامر البوسلامة

 

يُتهم الإسلاميون وكذا الحركة الإسلامية بأنهم لا يقومون بعمل التقويم، ولا يلتفتون لعلم المراجعات، وترى خصوم الإسلاميين يوجهون اللائمة للإسلاميين أنهم جامدون، لا يتطورون، متكلسون لا يسايرون جديد الحياة، تنظر إليهم من قريب ومن بعيد فتجدهم وكأنهم لا يعيشون عصرهم، بل كأنهم في عصر من العصور الغابرة، وعلة العلل –كذا زعم خصوم الإسلاميين- أنهم “ماضويون” يقدسون الماضي، ويجمدون على اجتهادات الماضي، ولا يعتبرون الخير إلا بمن مضى، وشعارهم “لم يبقِ المتقدم للمتأخر شيئاً”، خصوصاً إذا كان من جيل المؤسسين، الذين لهم رمزية في العلم والتجديد والاجتهاد، كما هو كذلك في التخطيط والتنظيم، فسحرهم ذلك الماضي، فراحوا يقفون على الأطلال، وينشدون على ذلك المجد لا يبرحونه، فتوقفوا عند محطات العالم الفلاني، أو المفكر الفلاني، أو المؤسس العلاني، أو العبقري فلان، والداهية علان.

 

من هنا ترى هؤلاء الخصوم يجعلون هذا الأمر من أعمدة الضياع الإسلامي، وبسببه ضاع كثير من فرص اللقاء الوطني، وغير ذلك من البلاوي والكوارث والطامات، لذا ينادون بالمراجعات وإعادة النظر وإجراء التقويم على أسس مبادئ العولمة، وما بعد الإسلاموية، وحداثة الفلسفة، وفلسفة ما وراء الأدلجة، ويتشدقون ويبالغون ويتطاولون، ويخلطون الحق بالباطل، والخير بالشر، والسم بالعسل، وغير ذلك من أنواع الخلط.

 

وفي البداية نقول: هذا النقد بعمومه ليس صحيحاً، بل هو مجاف للحقيقة، وبعيد عن دائرة الصواب، وظلم ظاهر، ووصف قائم على الجهل، أو الخصومة غير المنصفة، أو الاصطياد بالماء العكر، وفي بعض الأحيان وأنا أقرأ لهذا الصنف المتهم، فأمرّ على أفكارهم، وألتهم كلمات مقولاتهم، وأقول في نفسي: ما هذا الجهل؟ وعن أي حركة يتحدثون؟ وعن أي جماعة يذكرون هذه المعاني والمفردات؟ لأعود مؤكداً أن هذه الأحكام التي تطلق –بهذا التعميم– على كل الإسلاميين، إنما منشؤه الأساسي القناعة قبل البرهنة، مع تقليد تلقينيّ مريع.

 

* خصوم الإسلاميين

 

إن الحركة الإسلامية، والإسلاميين عامة، قاموا بعمليات تقويم كثيرة، بين الفينة والأخرى، وبين عقد وعقد، وبين مرحلة وأخرى، ومن تجربة لتجربة ثانية، جزئياً أو شاملاً، وهذا أمر معروف ومعلوم، والأمثلة على هذا كثيرة، وكانت هناك في بعض البلدان مراجعات ضخمة، ولكن مشكلتنا مع القوم المثل السائر المعبر عن حالة العناد الأيديولوجي المبرمج “عنزة ولو طارت”.

 

ونستطيع أن نقول: إن هدف خصوم الإسلاميين من نقد الإسلاميين، على أنهم معطلون للنقد في صفوفهم، ويحاربون الناقدين، ويكرهون الذين يؤشرون على الأخطاء، ولا يقومون بالتقويم المطلوب، ولا يعتنون بقانون المراجعات، إنما هدفهم التشهير، والنَّيل من الإسلاميين، وفي بعض الأحيان يريدونهم أن يتخلوا عن ثوابتهم، ويخرجوا من جلودهم، حتى يفقدوا خاصية تمايزهم، ولا أنكر أن بعض هؤلاء –رغم أنهم خصوم- يريدون للحركة الإسلامية أن تطور نفسها، وتواكب مستجدات الحياة، في الجانب السياسي والجانب المعرفي العام، كل ذلك من باب النصح، وهؤلاء قلة من كثرة، حتى لا يفهم كلامنا يضرب بعضه بعضاً.

 

وبالمقابل، وحتى نكون موضوعيين، هناك نوع محدود من الإسلاميين، الذين يعيشون حالة الجمود، وأعداء للتجديد، وثبتوا على متحركات، وحصروا أنفسهم في اجتهادات باتت قديمة؛ فيرفضون التغيير، ويعادون التقويم، ولا يؤمنون بالمراجعات، ويعتبرونها من النكسات، بل يرون ذلك من التغيير الذي يعبر عن حالة التساقط على طريق الدعوة، فيقولون، على سبيل المثال: فلان كان يرى كذا، وغيّر وبدّل، وصار يرى كذا، وكأنها جريمة من الجرائم العظمى، أو كأنه غير ثابتاً من ثوابت الدين، أو خرق ركناً من أركان العقيدة والإيمان، في حين أن القضية لا تعدو كونها مسألة اجتهادية، وهذا لا شك أمر غير مقبول، بل مخيف مرعب، لأن المطلوب غير هذا تماماً.

 

وتلقى هذا الصنف، ثم تغيب عنه عقداً أو عقدين، وتلقاه فإذا هو هو لم يتغير ولم يتبدل، بعض الناس يرى هذا صفة مدح، وأنا لا أرى هذا، والحالة الفردية من هذا النوع تدلل على حقيقة ما نذكر، تلاحظ مستوى الثقافة والمعرفة الحركية عند فلان من الناس، تتركه فترة طويلة ثم تعود إليه، فتجده كما تركته لم تغير الأيام وتطوراتها وأحداثها، وانفجاراتها المعرفية والثقافية منه شيئاً، ولم تضف له أي جديد، وبالمقابل ترى بعض الإخوة ثم تغيب عنهم زمناً، ثم تلقاهم، فإذا الواحد منهم قد توسعت مداركه، وازدادت ثقافته، وتطورت معارفه، وتحسن أداؤه، هذا مبدع في مجال السياسة، وذاك داعية متميز من طراز فريد، والأخ الفلاني يشار له بالبنان في الجانب العلاني وهكذا، فإذا بي أقف أمام مفاخر جديدة.

 

الحركة قبل عشرين سنة لا يمكن أن تبقى كما هي، فلا تتغير ولا تتبدل، ولو بعد خمسين سنة، وتكرر خططها، وتحبس نفسها في أدوات ذلك الزمن، تراها عتيقة الأفكار، قديمة الوسائل، بالية الأداء، هذا غير مقبول ولا يُعقل في عالم العمل الإسلامي، الحيوي المتجدد المستوعب للنوازل، والمواكب لتطورات الحياة، وكذا الإنسان وهو ابن عشرين عاماً، غيره ابن أربعين أو خمسين أو ستين، لأن قراءته كثرت، وثقافته توسعت، وعقله كبر، وذهنه توسع، واكتسب من الخبرات ما يصنع منه شيئاً جديداً، وصارت له تجربة يفيد منها في هذا الذي ندندن حوله، فإذا بقي كما هو، ولم يتغير فيه شيء، وهو كما تركته من عشرين أو ثلاثين سنة؛ إذن نحن أمام مشكلة كبيرة، تستحق التوقف والبحث والنظر.

 

ولعل أحد المفكرين الإسلاميين قصد هذا الصنف من الإسلاميين لما قال: “لم تعتد الجماعات على النقد الموضوعي لها؛ ولذا تسارع في تصنيف الممارس له وإدانته واتهامه دون الاستفادة من النظر في مادة النقد وفحواها”.

 

تقديس الجماعات الإسلامية لقادتها أوقعها في سلسلة من الأخطاء الكارثية، أولها تنزيه القيادة من الخطأ، ثانيها زرع روح القطيع في الأفراد، هذا الكلام ينطبق على مجموعة قليلة من الإسلاميين، وظني أنه لم يقصد التعميم، فإن أراد التعميم –رغم حبي له واحترامي لقدرته التنظيرية– فإني أختلف معه كل الاختلاف، ولا أرى كلامه صواباً.

 

من هنا، فإن غايتي من هذه المقالة: تثبيت صحة فقه التقويم والمراجعات، وأنه فقه يتطابق مع شرع الله، ويتوافق تماماً مع مقررات الحركة الإسلامية.

 

أهمية فقه التقويم وإحداث المراجعات:

 

فقه المراجعات والتقويم له أهمية بالغة، وهو من الموضوعات الحساسة، ولها طبيعة استثنائية حين الإقدام عليه، وذلك لاعتبارات متعددة، وملابسات كثيرة، سنمر على ذكرها في ثنايا هذه المقالة.

 

التقويم والمراجعات دليل صحة، وليست عرَضاً لمرض، كما يتصور بعض الأحبة، بل ترك المراجعات هو الخطر، ونصبح كالمريض الذي لا يريد الذهاب إلى الطبيب خشية الصدمة من وجود مرض خطير، في حين أن قواعد الصحة المنصوح باتباعها هي المبادرة في الفحص لكشف المرض –إن وجد– مبكراً، حتى يسهل علاجه قبل أن يستفحل، وكذا هنا في المراجعات، نفعل هذا لنحل المشكلات قبل استفحالها، ونكتشف الاختلالات قبل انتشارها، ونسبر غور العوائق لمعرفتها قبل أن تنخر في جسمنا الطيب.

 

إعادة التقويم برهان على قوة الفرد والجماعة والمؤسسة، وليست علامة ضعف وخور، أو بمعنى آخر هي عنوان على استئناف مسار الرشد، لكن بروح جديدة، ودم جديد، وبرامج جديدة، مثله كمثل الصوم الذي بسببه تتخلص من الخلايا الميتة والهزيلة، وتستبدل بشي يملأ الجسم حيوية ونشاطاً، فتنطلق معافى صحيحاً قوياً، كل هذا يكون من خلال التخلص من خلايا الضعف والانكسار، وبناء خلايا تمنحك الفعل اللازم، في عالمك الحركي، وحركتك الإيجابية.

 

إن شجاعة التقويم والمراجعة، والاعتراف بالخطأ حال وقوعه؛ يمنحك المصداقية، ويعطيك قوة الإرادة، فلا تتردد، ولا تتلكأ، ولا تتلعثم، ولربك تعبّد.

 

التقويم بحث عن الأحسن والأجود والأروع والأفضل، والأكثر خيراً ونمواً وازدهاراً، وليس رجعة إلى الوراء للقعود والإحباط، والدخول في متاهات اللوم المقعد، الحالقة المهلكة، والجدل المر، والشحناء المضرة.

 

المراجعات علامة ثقة بالنفس، حيث تمتلئ نفس أصحاب المراجعات بمعاني الحضور، ومربعات الشهود، إثباتاً للذات، وإحداثاً للفارق بين الأمس واليوم، والبروز على ساحة العمل بلون جديد، وفعل قوي، وإنسان مسلم لا يعرف الملل، ولا تسيطر عليه علامات الكسل والملل والسآمة، ومن ثم قد دفع عنه شارات الترهل ومقاسم اليأس؛ والذين يخافون من التقويم والمراجعات يعيشون حالة الانكسار والهزيمة النفسية، ويكونون كهذا الذي يخاف من خياله!

 

التقويم والمراجعة ليست قضية جديدة، عندنا معاشر المسلمين، بل هي قديمة قدم أجيالنا، من أيام سلفنا الصالح، وماضينا المجيد، وتاريخنا التالد، فهذ سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة بيعة السقيفة، تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

 

“أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.

 

وهذا سيدنا الفاروق عمر رضي الله عنه، يضع ميزاناً قيماً، يجعله قانوناً في مسائل الحكم، بهذه الكلمات الوجيزات المكتنزة بالفهوم العزيزات، والقواعد الرائدات، والمعالم الواضحات، في هذا الذي ندندن حوله، ومنها أن التقويم والمراجعة ليس عيباً، بل هو من أعمال الراشدين، وسلوك المهديين، وسيرة المجددين، ومنهاج الصالحين.

 

ووضع اليد على الألم ليس عاراً، والمصيبة في التمادي في الخطأ فلا نصحح، ولا نقوم، ولا نتراجع عن الخطأ.

 

وروى الدارقطني عن عمر بن الخطاب: “لا يمنعك قضاءٌ بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه إلى الحق؛ فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل”.

 

وكتب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما: “أما بعد: فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق”.

 

فعندما يظهر لك الحق، من خلال بحث وعلم، ومعرفة، وسبر وتقسيم، وتقويم سليم، فلا يجوز لك إلا أن تقبله، وتسير على منواله، ففيه الفلاح والنجاح، ففي بعض الأحيان تقدم للجماعة أو الحركة تقويمات ناصحة، من صديق أو قريب، فعليك أن تقلب فيها وجوه النظر، فإن كانت مفيدة فبها ونعمت، فاقبلها وامض على بركة الله، ولا تدفعنك عوامل العصبية أو الكبر ألا تقبل ذلك.

 

عمر بن عبدالعزيز قال: “ما من طينة أهون عليَّ فكاً وما من كتاب أيسر عليَّ رداً من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق بغيره فنسخته”.

 

عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبدالعزيز: “إذا رأيتني قد مِلتُ عن الحق فضع يدك في تلابيبي، ثم هُزَّني، ثم قل لي: ماذا تصنع؟!”.

 

قال الإمام أحمد: “كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله”.

 

ذكر الآجرّي صفات العلماء، فذكر منها: “إن أفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ لم يستنكف أن يرجع عنها، وإن قال قولاً فردَّه عليه غيره –ممن هو أعلم منه أو مثله أو دونه– فعلم أن القول كذلك رجع عن قوله وحمده على ذلك وجزاه خيراً”.

الدكتور عامر أبو سلامة

مفكر وكاتب إسلامي

أضف تعليقاً