أسامة شحادة
تعصف بأمتنا اليوم العديد من الفتن والمحن والتحديات، وفي ظني أن ذلك من المؤشرات الإيجابية لحالة الأمة الإيمانية بالعموم، لقوله صلى الله عليه وسلم، لمصعب بن سعد رضي الله عنه حين سأل: يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: “الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة” رواه الترمذي وصحّحه الألباني.
ومَن تأمل تطور حالة الأمة المسلمة في القرن الماضي سيجد أنها خطَت خطوات كبيرة وكثيرة على صعيد التدين، فقد انحسرت جداً مظاهر الوثنية والشرك بعد أن كانت قد عمت وطمت فيها مظاهر الطواف بالقبور والاستغاثة بالموتى وطلب الحوائج منهم بدلاً من التوجه لله عز وجل، وعمرت الأضرحة بروادها بينما خوت المساجد من الراكعين والساجدين، وكادت أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج أن تغيب تماماً عن حياة المسلمين، فضلاً عن انتشار الفواحش والتبرج والربا.
وفي المقابل شهدت الأمة المسلمة في القرن الماضي عودة للدين، فانحسرت موجة الإلحاد والماركسية المعادية للدين والإسلام، وعمرت المساجد بالمصلين وتالي القرآن الكريم، وتضاعفت مراراً أعداد الصائمين حتى أصبح من النادر أن تجد مجاهراً بالفطر في رمضان، ويتسابق المسلمون اليوم لإخراج الزكاة والصدقات بأنواعها، والحرص على إعانة المحتاجين والأرامل والأيتام ورعاية طلبة العلم، وتغص جنبات المسجد الحرام بمكة المكرمة حفظها الله عز وجل بالطائفين والعاكفين، ومهما بذلت السعودية من أموال في توسعة الحرمين والمشاعر فإن أعداد الحجاج والمعتمرين في ازدياد ولله الحمد، وعمّ التدين شرائح الأمة كلها، شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً.
ورافق ذلك كلّه تقدم كبير على صعيد تقلص مساحة الجهل والأميّة والخرافة والشعوذة، وحصلت نهضة عمرانية وصحية وثقافية واقتصادية مع تخلص غالبية البلاد من نير الاستعمار المباشر.
نعم، بقيت هناك مشاكل وثغرات وبؤر فساد وأنظمة عميلة وبلدان ما تزال محتلة كفلسطين وتركستان وغيرها، لكن بالمجمل تحسن حال الأمة كثيراً جداً، وثبت أنها جاهزة لتنهض سريعاً من تخلفها وضعفها إذا فتح لها المجال، فبرغم وجود فجوة كبيرة بين إمكانات الغرب وإمكانات بلاد المسلمين إلا أن العديد من البلاد والأفراد تمكنوا من سد الفجوة العلمية والإدارية بسرعة فائقة وبطريقة مدهشة، وتعد ماليزيا وتركيا نموذجاً لذلك كدُول، وآلاف المبدعين في شتى المجالات العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية كأفراد، بل وحتى على المستوى العسكري فقد أثبت المقاتل المسلم نفسه في أرض المعارك دفاعاً عن دينه ووطنه أمام جبروت أقوى الماكنات العسكرية المعادية في العالم كما في الجزائر وأفغانستان وفلسطين وسورية والبوسنة وغيرها.
وهذا التحسن والتقدم في حال الأمة بالعموم كان سبباً لتكثيف الأعداء تكالبهم على أمة الإسلام مؤخراً، حيث ظنوها قد ماتت وتبدلت وتخلت عن هويتها الإسلامية، ومن هنا زادت وتائر مكرهم وكيدهم لعرقلة هذا التقدم والتطور حتى لا يستعيد المسلمون حقوقهم المادية وأراضيهم المنهوبة والمسلوبة، وحتى لا يصبحوا قوة تمنع الظلم والعدوان كما فعلوا عبر تاريخهم.
وهذا المكر والكيد والحرب من الأعداء سنة ربانية في الكون للأمة المسلمة “أحَسِب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهُم لا يُفتنون* ولقد فتنّا الذين من قبلهم فلَيعلَمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين” (العنكبوت: 2-3)، وبسبب تحسن حالة الإيمان بالعموم للأمة المسلمة كانت الفتنة والمحنة في هذا الزمان أشد، والله أعلم.
ولقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من خطر الفتن فقال: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعَرض من الدنيا قليل” رواه مسلم.
ومن نماذج هذه الفتن العصرية في عالمنا اليوم ما نجده في الألعاب الإلكترونية الوافدة التي غزت أطفالنا وشبابنا، وتأثروا بها حتى انتحر عدد منهم، وقُتل بعضهم آخرين بدفع منها، ولكن الأخطر من ذلك هو تأثيرها على عقيدة الأطفال الذين -دون وعي وإدراك- أصبحوا يعبدون الشيطان أو يعتقدون وجود آلهة غير الله، ويقومون بطقوس وعبادات مخالفة للإسلام، والتي تبدت حقيقتها في شلل بعض الكافيهات والحفلات المنفلتة كحفلة “قلق”، وانتشار ظواهر عبدة الشيطان والإيمو وغيرها بين طلبة المدارس، ويصاحب ذلك انتشار تداول المخدرات والخمر، وهذه فتنة ماحقة تهلك الفرد ثم الأسرة فالمجتمع.
ومن الفتن الخطيرة التي تنزع المسلم من دينه فتن الشبهات الإلحادية التي غزت الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يجرّ الشباب والشابات لها عبر الشهوات ودغدغة العواطف أو عبر استغلال مشاكلهم وهمومهم وخداعهم بوعود كاذبة لحلها.
ومن الفتن التي تمحق الدين والتوحيد من قلوب المؤمنين عودة وانتشار الوثنية الشرقية القديمة بين كثير من الناس، وخاصة النساء، من خلال ما يسمى دورات الطاقة ونوافذ الشاكرات، والتي أحيت خرافة تعدد الآلهة: إله الخير والنور وإله الشر والظلام.
ومن الفتن التي تورد المسلم هاوية الكفر استغلال حاجة اللاجئين والمشردين لترك الإسلام واعتناق غيره من الأديان مقابل الحصول على جنسيات أوروبية ومساعدات مالية، وقد كشفت عدة تقارير إعلامية عن ردة آلاف من اللاجئين السوريين في المهاجر الأوروبية عن الإسلام لهذه الغاية.
ومن الفتن التي قد توصل المسلم لحد نبذ الدين والوقوع في المحظور الصراعات السياسية بين فرقاء الأمة وما يمارسونه فيها جميعاً من كافة أشكال الكذب والتضليل والخداع والمكر والقتل والاغتيال المعنوي والمادي، والتي تسببت بردات فعل متنوعة في حجمها عند فئات كثيرة، بحيث وصلت لدى البعض بالتحول للإلحاد والإدمان بعد أن كان من أهل الدين والاستقامة.
هذه جوانب من الفتن المعاصرة التي تجعل من الثبات على الحق والاستمرار في طريقه أعظم مطلوب لقوله سبحانه وتعالى: “يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله حق تُقاته ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون” (آل عمران: 102)، وللحديث صلة حول أسباب الثبات على الحق.
الغد الأردنية