الإخوان المسلمون في سورية

الصبر على مشاق الدعوة إلى الله

د. يوسف القرضاوي

 

هذا مجال لخلق الصبر في القرآن، وهو الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تعالى، وما يحفّ بها من متاعب وآلام، تنوء بها الظهور، وتضعف عن حملها الكواهل إلا من رحم الله، وذلك أن أصحاب الدعوة إلى الله يطلبون إلى الناس أن يتحرروا من أهوائهم وأوهامهم وموروثاتهم ومألوفاتهم، ويثوروا على شهوات أنفسهم، ومعبودات آبائهم، وعادات أقوامهم، وامتيازات طبقاتهم، وينزلوا عن بعض ما يملكون إلى إخوانهم، ويقفوا عند حدود الله فيما أمر ونهى، وأحل وحرم، وأكثر الناس لا يؤمنون بهذه الدعوة الجديدة فلهذا يقاومونها بكل قوة، ويحاربون دعاتها بكل سلاح، مدلين بأنهم أكثر مالاً، وأعز نفراً، وأقوى نفوذاً، وأوسع سلطاناً.. فليس أمام دعاة الحق إلا أن يعتصموا باليقين، ويتسلحوا بالصبر في وجه القوة الضاربة، والسلطة الطاغية.

 

فالصبر هنا – كما قال الإمام علي: “سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، وضياء لا يخبو”، وكما جاء في الحديث الصحيح: “الصبر ضياء”. وهذا هو السر في اقتران التواصي بالصبر بالتواصي بالحق في سورة العصر: “إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” (العصر: 2 – 3) فلا بقاء للحق بغير صبر.

 

هو السر فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى على لسانه: “يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور” (لقمان:17) .

كأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فوطِّن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبل الأذى من جهتهم فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف، لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر، لأنه محبب إليهم.

 

ومشاق الدعوة إلى الله تتمثل في صور شتى، وقد ذكر القرآن منها أنواعاً وأمثلة:

 

أ- تتمثل في إعراض الخلق عن الداعية، فليس أشق على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه، ويصيح بأعلى صوته، بشيراً ونذيراً، فلا يجد إلا آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً!

 

رأينا ذلك مع نوح عليه السلام، حيث قال مناجياً ربه: “رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً بمؤمنين” (نوح: 5-7).

 

ورأينا ذلك مع هود عليه السلام حين قال له قومه: “يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ” (هود: 53).

 

ب- وتتمثل متاعب الدعوة في أذى الناس بالقول أو الفعل، فليس أشد على نفس الرجل المخلص في دعوته، البريء من الهوى، المحب لخير الناس، من أن يمحض لهم النصح، فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة فيردوه بالقوة، ويعظهم بالحسنى، فيستقبلوه بالسوأى، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيقاومونه بالتي هي أخشن، ويدلهم على الخير، فيقذفوه بالشر، ويصدع فيهم بكلمة الحق، فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل.

 

وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، فكثيراً ما يمتد الطغيان إلى الأموال فينهبها، وإلى الأبدان فيعذبها، وإلى الحريات فيسلبها، والحرمات فينتهكها، بل إلى الأنفس فيقتلها، حتى الأرض التي نبتوا منها، وشبوا عليها، ونشأوا في أحضانها، هم وآباؤهم وأجدادهم يخرجون منها إخراجاً.

 

وهذا ما أقسم القرآن على وقوعه للداعين إلى الله، حيث خاطب بذلك المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل، فقال: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ” (آل عمران: 186)، ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله تعالى: “وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً” (المزمل: 10).

 

والأنبياء جميعاً يمثلون هذا النوع من الصبر، ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردّاً على أقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)، وعزى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله فقال:

 

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (الأنعام: 34).

 

جـ- وتتمثل مشاق الدعوة كذلك في صورة أخرى؛ هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، هناك يبتلي المؤمنون ويزلزلون زلزالاً شديداً، كما صور القرآن الحالة النفسية للمسلمين في غزوة الأحزاب.

 

وكم أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع، وبأكثر من أسلوب، فهو يخاطب المؤمنين فيقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214) .

 

يقولون متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالاً لمجيئه، فيجيء معه الغوث للملهوف، والفرج للمكروب، ويقول جل شأنه: “حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” (يوسف: 110).

 

إخوان سورية

2 comments