أسامة شحادة
قال سبحانه وتعالى: “ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت” (النحل: 36) فعبر تاريخ البشر -على اختلاف أزمانهم وأعراقهم وألسنتهم- كان الثابت الوحيد هو مركزية عقيدة التوحيد التي جاء بها جميع الرسل والأنبياء لجميع الأمم، وجعل سبحانه قبول عقيدة التوحيد المعيار والميزان “فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى” (طه: 123) فكلما التزمت البشرية بعقيدة التوحيد صلح حالها وسعدت أيامها، وكلما أعرضت عن عقيدة التوحيد غرقت في بحار الجهل وتاهت في صحراء الشقاء.
وعقيدة التوحيد منظومة متكاملة، معرفياً ودينياً وعملياً، تجمع كل متطلبات البشرية الروحية والمادية في انسجام وتكامل، وقد أنتجت عقيدة التوحيد مرات عديدة في التاريخ البشري دولاً وممالك عظيمة جمعت بين الحق والعدل والقوة والغنى والسعادة، وكانت حضارة الإسلام هي النموذج الأخير الذي لم تبلغه أي حضارة لاحقة ولليوم.
وبرغم ضعف المسلمين اليوم، وظهور قوى أخرى تعرض عن عقيدة التوحيد إلا أنها لم تستطع أن تثبت جدارتها وصلاحيتها، ولا تزال كلما تقدمت في مجال يكشف هذا المجال عن ضعفه وخلله وتناقضه مع الفطرة الإنسانية والسنن الربانية الكونية، بما يؤكد حاجة البشرية لالتزام عقيدة التوحيد حتى تنجو من ضلالها وشقائها، وهذا يلقي بتبعية عظيمة على أمة الإسلام في حمل عقيدة التوحيد على محمل الجد لتصلح أحوالها أولاً ومن ثم تنقذ البشرية المعذبة، وهذا سيكون له حديث خاص في مقال لاحق.
ولليوم فإن إعراض كثير من البشر عن عقيدة التوحيد يغرقهم في بحار الضلال والجهل، ولذلك تجد انتشار الإلحاد بينهم برغم أنه يناقض أبسط القواعد العلمية التي تؤكد أن العدم والفوضى والصدفة لا تنتج نظاماً وتعقيداً أو حتى تركيباً بسيطاً، فكيف بكون عظيم في غاية النظام والتعقيد؟
وبرغم التوسع العلمي في الماديات تجد عباقرة نالوا جوائز عالمية مرموقة كجائزة نوبل مثلاً ثم يعبد حيواناً! أو إنساناً! أو جماداً! في ضلالة وجهالة لا يمكن أن تجد لها مثيلاً.
وبرغم تفشي الثقافة -زعموا- وانفجار ثورة المعلومات وتبشير آلفين توفلر للعالم بأنه على أعتاب موجة ثالثة من طبيعة المجتمعات فإن أبجديات ومثاليات ما يدعوننا إليه ليس له معنى محدد متفق عليه! فلا يوجد تعريف متفق عليه للثقافة! ولا للديمقراطية! ولا لليبرالية! وهي التي يصدعون رؤوسنا بها صباح مساء بكونها “نهاية التاريخ”!
وحتى بين المسلمين، فحين اختل مفهوم عقيدة التوحيد لدى بعض الفرق والطوائف رأينا مظاهر شركية تنتشر بينهم، فعادت عبادة القبور والطواف بها وجعلها قبلة في الصلاة والدعاء، فضلاً عن السجود لها، وأعرض هؤلاء عن الأخذ بالأسباب الشرعية والدنيوية، فبدلاً من إعداد العدة لحماية الأوطان من المحتلين أصبحوا يطلبون الحماية والنصرة من الأموات، فاجتاحتهم جحافل خيول المغول والتتار وعجلات مركبات وطائرات الأوربيين!
كما أن إعراض الكثير من البشر عن عقيدة التوحيد كان سبباً في ضياعهم في صحراء الشقاء، فبرغم ترقي المدنية في حياتها إلا أن أرواحها مكتئبة ضجرة لا تستريح إلا بفقدان عقولها بإدمان المخدرات والمسكرات أو قتلها بالانتحار الذي بلغ مستويات رهيبة جدا في مجتمعات نبذ التوحيد.
وبرغم توفر الشهوات لها وكسر كل المحرمات والضوابط من أمامها إلا أنها لا ترتوي ولا تهنأ، وتعيش الشقاء، فتزيد نسبة الجرائم بينهم، فجرائم التحرش الجنسي تبلغ مستويات خيالية ويمارسها كل شرائح المجتمعات من كبار الساسة إلى الضباط والجنود وصولاً إلى أصحاب السوابق والجنايات، ولم تسلم منها مختلف طبقات النساء من العجائز وحتى الفتيات، وتعرضت لها النساء في الحكومات والبرلمانات والجيوش والكنائس فضلاً عن الجامعات والمدارس والشركات والشارع!
وبحثوا عن المال بكل سبيل فازدهرت بينهم مؤسسات الربا التي وفرت لهم السيولة المالية بسهولة مما فاقم الشخصية الاستهلاكية حتى انفجرت الفقاعة الربوية المحرمة في وجوههم، ففقدت الملايين مساكنها ووظائفها واستقرارها وسعادتها، واهتزت اقتصاديات دول عديدة، وأفلس عدد منها، ولم يكن الحل والمخرج من هذا الشقاء إلا بتصفير نسبة الربا على القروض!
وبسبب إعراضهم عن عقيدة التوحيد لا تزال البشرية تسعى نحو “المدينة الفاضلة” منذ زمن أفلاطون قبل الميلاد! مروراً بمعاهدة باريس للسلام في 1919م وعهد عصبة الأمم المتحدة ومن ثم الأمم المتحدة اليوم دون جدوى.
بل لا يزال المجرمون وهادمو السلام هم من يديرون مجلس الأمن الذي عهد إليه بصون السلم والأمن الدوليين، بحسب ميثاق الأمم المتحدة! ولا يزال حق النقض “الفيتو” هو الذي يحمي الطغاة ويمنع محاسبتهم ويطيل في أمد الظالمين ومعاناة المظلومين في فلسطين وسوريا!
فضلاً عن أن العالم المتحضر وليس الوحشي هو الذي نفذ الحروب العالمية التي قتل فيها عشرات الملايين من الناس واغتصب بها ملايين النساء واستخدم فيها السلاح الذري مرتين!
ولما أعرض بعض المسلمين عن عقيدة الأنبياء التي هي عقيدة التوحيد تاهوا في بيداء الشقاء حين لاحقوا -حكاماً ومحكومين- السراب خلف الأيدولوجيات الشيوعية والغربية، فلا تنمية وازدهار أقاموا، ولا عدالة وحقوقاً جلبوا، بل لم يتمكنوا من الحفاظ على ما كان من أحوال.
ولم يقتبس كثير من الناس من حضارة الغرب إلا قهوة “ستاربكس” ورقصة “دنس”، ولم يقتبسوا من محور الشرق إلا إلحاد ماركس وفجور لينين!
في النهاية؛ إن البشرية ستبقى تدور في فلك الضلال والجهل ومسارات الشقاء والعذاب طالما أعرضت عن عقيدة التوحيد، والمسلمون ليسوا استثناء من ذلك، بل سبب شقائهم وألمهم اليوم ما وقعوا فيه من ضلال وجهل بحقيقة التوحيد ومتطلباته، فإلى التوحيد يا عباد الله تسلموا وتسعدوا.
الغد الأردنية