أسامة شحادة
بعد أن تبيّن لنا افتقار البشرية للوحي الرباني لما فيه من معرفة وعلم يعجز العقل والعلم عن الوصول إليهما، وأن الوحي هو إعلام للأنبياء من عند الله عز وجل، ويكون بطرق متعددة هي: كلام الرب تعالى للأنبياء مباشرة من وراء حجاب، أو عبر واسطة الملك جبريل، أو بالنفث في الروع، أو عبر المنام، سيكون حديثنا اليوم عن الموحى به، وأنه يشمل القرآن الكريم والسنة النبوية، وطبيعة العلاقة بينهما، وسمات كل منهما.
نكرر أنه لمّا كان اتباع الوحي سبيل الهداية والنجاة والسعادة “قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة: 38)، لذلك نجد العديد من آيات القرآن الكريم تبيّن طبيعة الوحي وتفاصيل نزوله وأقسامه، ومن ذلك قوله تعالى: “كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون” (البقرة: 151)، والآية ترشد بكل وضوح إلى وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تلاوة الآيات وتزكية النفوس وتعليم المسلمين الكتاب، وهو القرآن الكريم، وتعليم الحكمة، وهي السنة النبوية، وقد تكرر تنبيه القرآن الكريم على امتنان الله عز وجل على عباده بإنزال الحكمة، وهي السنة مع القرآن الكريم كما في قوله تعالى: “واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به” (البقرة: 231)، وقوله تعالى: “واذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة” (الأحزاب: 34).
وقد كان شائعاً ومعروفاً عند الصحابة والتابعين والسلف أن السنة النبوية هي الحكمة، وهي وحي من عند الله عز وجل، فهذا التابعي حسان بن عطية يقول: “كان جبريل ينزل على النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسُّنة كما ينزل عليه بالقرآن”، ويقول الإمام الشافعي: “فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن، يقول: الحكمة سنة رسول الله”.
ومما يؤكد أن السنة النبوية وحي رباني ما يقرره القرآن الكريم بقوله تعالى: “ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء” (النحل: 89)، لكن القرآن الكريم لم يفصّل لنا بعض الأوامر الشرعية التي تتعلق بأركان الإيمان والإسلام! فهل القرآن الكريم متناقض؟ كلا، لأن القرآن الكريم أمَر باتباع النبي، صلى الله عليه وسلم، في آيات كثيرة جداً، وجعل طاعة النبي، صلى الله عليه وسلم، من طاعة الله عز وجل، كقوله تعالى: “وأطيعوا اللهَ والرسولَ لعلكم ترحمون” (آل عمران: 132)، وقوله جل وعلا: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين” (التغابن: 12)، وبهذا يتبين تكامل الوحي الرباني (القرآن والسنة) فإن تفصيل أحكام وحي القرآن جاء بوحي السنة، ولذلك كان القرآن الكريم صريحاً في ذلك بقوله: “يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس” (المائدة: 67)، وعليه؛ فإن تفاصيل أركان الإيمان والإسلام، ومنها هيئات الصلاة والصيام والحج التي بيّنها النبي، صلى الله عليه وسلم، هي من البلاغ للوحي وإلا لَما كان لأوامر القرآن الكريم من معنى؟ ولما كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء؟
وهذا التكامل بين شِقّي الوحي (القرآن والسنة) هو ما أجمع عليه أئمة الإسلام منذ الصدر الأول، فرُوي عن مكحول التابعي الشامي أنّه قال: “القرآن أحوجُ إلى السنّة من السنّة إلى القرآن”، ذلك أن آيات القرآن الكريم تفصّلها السنة النبوية.
وحول طبيعة العلاقة بينهما يقول الإمام الشاطبي في “الموافقات”: “فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره”، ويقدم لنا الدكتور عبد الله دراز أمثلة على كلام الشاطبي بما معناه أن السنة النبوية تفصّل مجمل القرآن، كقوله تعالى: “وأقيموا الصلاة” ببيان كيفيات الصلاة من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم، أما بيان مشكل القرآن فبتوضيح السنة أن أداء الزكاة يرفع الحرج عمّا جاء في قوله تعالى: “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب عظيم”، أما بسط وشرح ما أجمله واختصره القرآن فكإسهاب السنة في بيان قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة بدر والذين ذكرهم الله بقوله: “وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا”.
ومع كون السنة شارحة ومفسرة للقرآن الكريم، إلا أنها أيضاً تشرّع بصورة مستقلة بعض الأحكام الفرعية التي لم تَرد في القرآن الكريم، ويبّن لنا ذلك الإمام ابن عبد البر المالكي في “جامع بيان العلم وفضله” بقوله: “البيان منه، صلى الله عليه وسلم، على ضربين؛ الأول: بيان المجمل في الكتاب العزيز، كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر الأحكام. الثاني: زيادة حكم على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها”، واستقلال السنة بالتشريع يندرج ضمن الأوامر القرآنية الكثيرة بطاعة الرسول، وهي من البلاغ الذي أُمر النبي بإبلاغه.
ولأن السنة النبوية وحي من الله عز وجل كالقرآن الكريم فإنها محفوظة أيضاً، وداخلة في عموم قوله تعالى: “إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون”، يقول ابن حزم في “الإحكام”: “فأخبر تعالى أن كلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، كله وحي، والوحي بلا خلاف ذِكْرٌ، والذكر محفوظ بنصِّ القرآن، فصحّ بذلك أن كلامه، صلى الله عليه وسلم، كله محفوظ بحفظ الله عز وجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء، إذ ما حَفِظَ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا”.
وبهذا يتبين لنا أن الفارق بين القرآن الكريم والسنة النبوية هو أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى بلفظه ومعناه أوحي به للنبي، بينما السنة النبوية هي وحي بالمعنى للنبي وعبّر عنه بلفظه، وقد سخّر الله عز وجل العلماء لحفظ القرآن الكريم بلفظه وكتابته وبرسمه العثماني المعروف، وسخّر أيضاً العلماء لحفظ السنة النبوية وبيان ألفاظ النبي، صلى الله عليه وسلم، كما قالها، وكشفوا ما دسّ عليها أو وقع فيه خطأ من الرواة.
الغد الأردنية