د. يوسف القرضاوي
مَن قرأ تاريخنا الإسلامي، أو مَن قرأ واقعنا التاريخي في بلادنا الإسلامية المختلفة في العراق ومصر والشام واليمن والمغرب الكبير، وغيرها من الأقطار في المشرق والمغرب، ومَن قرأ (الحُجَج الوقفيَّة) التي لا تزال تحتفظ خزائننا الرسمية والشعبية، ولا سيما في دوائر الأوقاف، بنماذج كثيرة منها: أيقن أن هذا الوقف الإسلامي كان له دوره الكبير، وأثره البالغ في إشاعة معانى البرِّ، ومشاعر الخير، والعواطف الإنسانية، وقِيَم الرحمة والإحسان، وميادين التكافل الاجتماعي، والحرص على كلِّ المُثُل العليا، التي جاء بها الإسلام، بل جاءت بها الأديان كافَّة.
ولم تقتصر معانى البرِّ والإحسان والرحمة على حاجات الإنسان المادية، بل اتَّسعت لتشمل الجوانب العقلية والنفسية والإنسانية، التي لا يحسُّ بها، ويفكِّر فيها، ويرصد لها ماله أو جزءاً من ماله إلا إنسانٌ صفت نفسه، وطهرت سريرته، وارتقى وجدانه، وحيَّ ضميره بحق.. بل أكثر من ذلك أنها لم تنسَ مخلوقات الله الضعيفة من الحيوانات والطيور والدوابِّ التي تشكو بغير لسان، وتبكي بغير دموع، وتتوجَّع ولا تكاد تبين.
ولقد سردتُ في عدد من كتبي، ولا سيما كتابي “أصول العمل الخيري في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية” كثيراً ممَّا سجَّله تاريخ الوقف في أمتنا من وقائع رائعة تبهر الأبصار، وتهتز لها القلوب، وتنشرح بها الصدور؛ فقد سجَّل التاريخ لكثير من أهل الخير والثراء من المسلمين: أنهم وقفوا – بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألاَّ ينقطع عملهم بعد موتهم – أموالهم كلَّها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإعانة المحروم، ومداواة المريض، وإيواء المُشرَّد، وكفالة الأرملة واليتيم، وبناء المدارس والمعاهد والجامعات التي تُوفِّر المساكن لطلاَّبها، والمستشفيات الطبيَّة والتعليميَّة، ومؤسَّسات الرعاية الصحيَّة، والسقايات والخانات (الفنادق) والحمامات التي يدخلها الفقراء مجاناً، وعلى كلِّ غرض إنساني شريف، بل أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولنقرأ هنا فقرات من بيان وزير الأوقاف المصري الأسبق الشيخ أحمد حسن الباقوري (ت 1985م)، الذي ألقاه في مجلس الشعب المصري، مبيِّناً مآثر الوقف الخيري الإسلامي في تاريخنا…
قال رحمه الله: (ولقد تأخذ أحدنا الدهشة – وهو يستعرض حُجَج الواقفين – ليرى القوم في نُبْل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعُلوِّ إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم: يتخيَّرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البرِّ يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال، فإلى هذه النفوس المستشرفة نسوق هذه الأمثلة:
– وقف الأواني المكسورة:
وهو وقف تُشترى منه صحاف الخزف الصيني، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناءً صحيحاً بدلاً منه؛ وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
– وقف الكلاب الضالَّة:
وهو وقف في عدَّة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
– وقف إعارة الحُليِّ في الأعراس:
وهو وقف لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه؛ وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تُجلَّى في حُلَّة رائقة، حتي يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
– وقف الزوجات الغاضبات:
وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت، ويعدُّ فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
– وقف مؤنس المرضى والغرباء:
وهو وقف يُنفق منه على عدَّة مؤذنين، من كلِّ رخيم الصوت، حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتِّل كلٌّ منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعياً وراء التخفيف عن المريض، الذي ليس له مَن يخفِّف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له مَن يؤنسه.
– وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء:
وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريباً من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام!) انتهى. فهذا لون من الإيحاء النفسي للمريض يقرِّب الشفاء، واكتساب العافية، وقد ثبت علمياً: أن هذا له أثره الإيجابي في التعجيل بالشفاء بإذن الله.
– وقف في بلاد المغرب لمن عجز عن دفع أجرة الحمام:
وفي بلاد المغرب: عُرفت أنواع أخرى من الأوقاف، مثل: الوقف على مَن يريد دخول “الحمَّامات العامَّة” ولا يجد أجر الحمَّام، فيأخذ من هذا الوقف ما ينظِّف به جسده، ويقضي وطره.
– وقف على نوع مهاجر من الطير:
وفي مدينة فاس: وُجد وقف على نوع من الطير، يأتي إلى فاس في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن، كأنما شعر هؤلاء الخيِّرون من المسلمين: أن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء!!
– وقف في الشام على القطط التي لا مأوى لها:
ومما ذكره الأستاذ الدكتور السباعي في كتابه (اشتراكية الإسلام): وقف رعاية الحيوانات الأليفة التي لا تجد مَن يطعمها، كالقطط – ولا سيما المصابة بالعمى منها – مثل (بيت القطط) الذي قال: إنه كان إلى عهد قريب موجودا في سوق (ساروجة) بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطة من الفارهات السمان!!.
وهكذا سلك الواقفون كلَّ مسالك الخير، فلم يدعوا جانباً من جوانب الحياة، دون أن يكون للخير نصيب فيه؛ وهم بهذا إنما يصدرون عن إحساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى مواطن الحاجة التي تعرض للناس في كلِّ زمان ومكان، بل هي لم تقتصر على الإنسان، حتى شملت الطير والحيوان!!
ولا شكَّ أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبَّهت لتلك الدقائق، في كلِّ زاوية من زوايا المجتمع، وكلِّ منحى من مناحي الحياة. ولم يكفِهم أن يكون برُّهم مقصوراً على حياتهم القصيرة، فأرادوها صدقة جارية، وحسنة دائمة، يُكتب لهم أجرها ما بقيت، وبقي مَن ينتفع بها من إنسان وحيوان.