الإخوان المسلمون في سورية

“ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة”

د. محمد خازر المجالي

 

إننا أمة القرآن، حيث اعتنى اعتناء كبيراً بالعلم وما يوصل إليه من العقل والحواس، فأراد الله منا أن نُعملها كي نصل إلى مرتبة من الإيمان عالية، ودرجة من اليقين راسخة، وقوة في الحق غالبة، فلفت سبحانه في كتابه العظيم الأنظار، ووجه الأسماع والأبصار، ودعا إلى التفكر والاعتبار. وبهذا غلبت حجة القرآن، وخضعت لها الأذهان، إلا عند قوم أبوا إلا الجحود والانكار، مع أن أنفسهم استيقنت منها وتمكنت، ولكنه الظلم والعلو والاستكبار.

 

ما أروع أن يوظِّف أحدنا حواسّه في الخير واجتناب الشر، يعيش سليماً في فكره وتصرفاته ومعشره وتطلعاته، ولعل من أجلّ نعم الله على الإنسان هذا العقل الذي به يُدرك ويَعِقل ويفهم ويعي ويفكر ويميز ويقارن ويبدع، ورحم الله الشيخ الغزالي وهو يقول: “وظيفة العقل أن يفكر كما أن وظيفة العين أن تبصر … الإنسان الذي يعيش بعقل معطل التفكير كإنسان يعيش بعين منغمضة، ويد مشلولة وقدم مقيدة”، ويقول: “الإسلام لا يلوم على حرية الفكر، بل يلوم على الغفلة والذهول”، ويقول: “المصابون بكسل التفكير واسترخاء العقل عصاة في نظر الإسلام”.

 

كم من الأمور نأخذها مسلّمات ولم نُعْمِل فيها عقولنا!؟ كم من الأخبار التي تصلنا ولم نتأكد منها أو نمحصها أو نتثبت منها!؟ ولا أقصد هنا الأخبار المرتبطة بالوحي والدين، فطريق معرفتها واضح، نقلت إلينا بطريق متواتر كالقرآن وجزء من السنة، وشبه متواتر وبسند صحيح في غالب سنته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك قد بينه العلماء ضعفاً ورداً، ولكنني هنا أتحدث عن أخبار من نوع آخر، لها علاقة بشؤون الناس والجماعات والأفراد، بشتى اتجاهاتهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأهدافهم.

 

ندرك جميعاً أن هناك صراعاً بين حق وباطل، بين خير وشر، وندرك أيضاً وجود الاختلاف بين الأفراد والجماعات، ففي البيت الواحد نجد هذا فكيف بالمجتمع والدولة والأمة؟ وبعض هذا الاختلاف محمود كونه ينتج آراء تثري مسيرة الحياة، وبعضه الآخر مذموم كونه يفرق الأمة بل الأسرة الواحدة، يوجد العداوة والبغضاء بينهم، وهو الذي عناه القرآن في سياقه الذام له، والمطلوب من الأمة الاجتماع واللقاء ولو بالخلاف المحمود، أما غير ذلك فهو تفتت وتشرذم لا يرضي إلا الشيطان وأعداء الأمة.

 

وفي هذه الأجواء لا بد من تقديم موضوع العقل والتفكر، فإذا وجدا وعملا في الاتجاه الصحيح فعلى الأقل لن تكون هناك عداوة، بل الاحترام المتبادل بين الأفراد والثقافات والجماعات والهيئات، وهذا من أهم معالم المجتمع الراقي المتحضر، فكم من تهمة أو إشاعة أو تخوين، لأفراد أو هيئات، ولا يعمل أحدنا عقله أو يتفكر، فيصدّق ويبني المواقف والسياسات والأحكام على أوهام وظنون لا تغني من الحق شيئا.

 

ولقد حدث مثل هذا في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم، فالمشركون هم الذين وصفوه ابتداء بالصادق الأمين، وبعد جهره بالدعوة عادوه واتهموه، بالسحر والكذب والكهانة والجنون، يتخبط الباطل وهو يصف خصمه فلا يستقر على رأي، يغتال الشخصية ويشوه الحقائق ويلبس الأمر على العوام، لا يعنيه إلا أمر المتسلطين على رقاب الناس أن يعلو شأنهم ويبقى ظلمهم وتحفظ هالتهم وجاههم ومصالحهم، فهي بدعة أن يأتي نبي مثلاً بدين يدعو إلى التوحيد، أو يأتي مصلح ليجدد أمر الدين، أو ينتقد خللاً في المجتمع موجود، فلسان الحال: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.

 

يتهم المشركون محمداً صلى الله عليه وسلم بالجنون، وكذا معظم الأنبياء والمصلحين، فيأمر الله رسوله أن يبلغهم بشيء واحد فقال: “قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”، (سبأ/46). وهي في سورة تحدثت عن جوانب من القصص، ولكنها في بداياتها ذكرت بعض أقوال المشركين في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكن أن يكون مجنوناً: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ”، (سـبأ/7-8)، وقد جاءت في سياق الحديث عن البعث وإنكار القوم له، فجاء استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الباب، أنه يقول إنكم إذا مزقتم وفرقتم وكنتم تراباً ورفاتاً أنكم ستخلقون خلقاً جديداً، وتبعثون من قبوركم أحياء، وبهذا فهم من الرسول بين أمرين: إما أنه كاذب فيما أخبرنا به أو أن به جنونا فلا يعقل ما يقول.

 

ورد الله على هؤلاء الكافرين بالآخرة بأنهم في العذاب والضلال البعيد، ووبخهم بما هم عليه من التكذيب، وما قالوا ما قالوا إلا لعدم التفكر والتدبر في مخلوقات الله تعالى، ومنها السماوات والأرض، فمن خلق هذا الخلق العظيم قادر على بعثهم من بعد موتهم: “أَفَلَمْ يَرَوْا إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ”، (سـبأ/9).

 

وتستمر الآيات في بيان جوانب من كفر القوم بالله تعالى وتكذيب الرسول بما جاء به عن ربه، إلى أن تأتي هذه الآية من آخر السورة، فيأمر الله رسوله بأن يعظ القوم ويوصيهم بوصية واحدة: أن يقوموا ويجتهدوا في طلب الحق بالفكرة الصادقة، متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، فالاجتماع قد يشوش الفكر، والازدحام قد يشوش الخاطر، فليطلبوا الحق وليصدقوا الفكر، فيتفكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مجنون فعلاً كما يروّجون؟ فليقل الرجل لصاحبه: هلم فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة أو جربنا عليه كذبا؟ ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه، فيتفكر وينظر، وسيجد أن محمداً صادق وأنه رسول من عند الله مبلغ عنه. وما قيل في حق محمد عليه السلام يقال في حق المصلحين، والرد هو نفسه أن نحترم بعضنا، ونعمل عقولنا فنتفكر فيما يقال ويشاع، بعيداً عن الغوغائية والتبعية العمياء دون إعمال العقل والفكر، خاصة حين تتضح الحقائق وتسقط الأقنعة وتزول الغشاوة.

 

الغد الأردنية

إخوان سورية