أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قدِم المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرياناً (لم يستر كتفيه وصدره) يجرّ ثوبه. والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده. فاعتنقه وقبّله.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسِنّه حينذاك تقارب الستين، يخرج من بيته فرحاً بقدوم زيد، حتى إنه لم يستكمل ارتداء ثيابه، تُحرّكه العواطف الجياشة، والحب الصادق.
ونجد كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتم مشاعره بالتعبير عن شدة فرحه عندما عاد جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فقال: “والله لا أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!”.
وهذه مقارنة عظيمة. قد يستغربها من لا يشعر بقيمة الحب في الله: بين فتحٍ فتَحَه الله على المسلمين بكل ما فيه من معانٍ دينية وسياسية… وبين لقائه صلى الله عليه وسلم مع جعفر!!. أفرحةُ هذا اللقاء تعادل فرحة نصر وفتح..؟؟ نعم إنها لكذلك!.
إن من طبيعة الحب البشاشة والاستبشار، ووضوح بهاء الفرح والسرور، والشوقَ والتلهف للقاء الحبيب، والتودّد والسماحة والبذل والتضحية والوفاء والإيثار…
إن الشعور بالحب والثقة بين المسلمين يجعلهم يَنشُدون المثالية في التعامل: إيثاراً وصفاءً وسماحة. وإن نضوب هذا الشعور يولّد حساسية مرهفة نحو أدنى تقصير يراه الأخ من أخيه، ولو كان هذا التقصير عفوياً، أو كان موهوماً. وإذا حصل الخلاف فسوء الظن، والامتناع عن قبول العذر، أو الامتناع عن الاعتذار، ثم التهاون في هتك الأستار، وفضح الأسرار، وتلقّي أخبار السوء من غير توثيق، والترخّص في الغيبة والنميمة.
إنه لا شيء يعوّض عن الحب في الله، ولا شيء يقوّي الصف مثل الحب في الله، ولا شيء يرفع مقام العبد عند ربه كالحب في الله…
فانظر أخي المسلم ماذا تحسّ تجاه إخوانك وأصحابك ومعارفك… وتجاه إخوتك في الدين في كل أنحاء المعمورة؟! إن فيهم العالم والجاهل، والتقي والمقتصد، والغني والفقير، ومن ترضى طريقته وفهمه ومذهبه واتجاهه… ومن تخالفه في شيء من ذلك أو أشياء…
هل يغلب على إحساسك تجاه هؤلاء جميعاً شعور الأخوّة في الله، والحب في الله، أم تقف الحوائل دون ذلك، حوائلُ الحسد والخصومة والتنافس وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فتُراك تُحرَم من نعمة الإخاء في الله والحب فيه؟!.
إن أعظم نعمة أنعمها الله عليك هي هذا الإيمان الذي يعمر قلبك، وهذه المعاني المتفرعة عن الإيمان، فإذا تذوقت هذه المعاني فأنت في بحبوحة الإيمان، وأنت أهلٌ للفوز برضوان الله تعالى وجنته.
لقد قرّر القرآن رابطة الأخوّة بين المؤمنين: ((إنما المؤمنون إخوة)). {سورة الحجرات: 10}.
وقرّر أن تأليف قلوب المؤمنين ليجعلهم إخواناً، هي نعمة من نعم الله: ((واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً)). {سورة آل عمران: 103}.
وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتدعو إلى ما يعمّق الأخوّة والمحبة بين المؤمنين، وتأمر بذلك أمراً مشدّداً، وتنهى عن كل ما يعكّر صفو القلوب، ويوجد الشحناء والبغضاء والقطيعة بينهم.
إنه لا بد أن تُروّض نفوس المؤمنين على التخلّق بأخلاق الصحابة رضي الله عنهم، فقد وصفهم ربهم سبحانه بأنهم ((أشدّاء على الكفار رحماء بينهم)). {سورة الفتح: 29}. وحين نجد من يدعو إلى اللين والكياسة، ثم يكون جلفاً قاسياً سليط اللسان في تعامله مع أبناء دينه ودعوته فهذا قد انقلب الميزان بين يديه.
كما أنه لا بد أن نعمل على جمع القلوب على الإيمان ومعالم الدين الكبرى، ونتغاضى عن الأمور الخلافية والجزئية. وإنّ مما يؤدي إلى الخلاف، وإلى انتقاص الناس والنيل منهم، أن يضع المسلم قضايا إدارية أو تنظيمية، فيها مجال واسع للنظر والرأي، موضع قضايا وردت فيها نصوص قطعيّة الثبوت، قطعية الدلالة، فيسوّي بينهما، ويشنّ حرباً شعواء على كل من لا يرى رأيه، حتى في هذه الأمور.
إنّ كثرة ذمّ الناس والنيل منهم والطعن الدائم في أقوالهم وأفعالهم، وحملِها على أسوأ محمل، وسرعة انتقاصهم وتصديق قالة السوء فيهم، أمارةُ مرض النفس وضيق الأفق، وضعف الخشية من الله، وقلة الإحساس بمراقبة الله سبحانه للعبد، وهي في الوقت ذاته علامة طفولة التفكير، إذ إنّ الإنسان كلما ارتقى فكره قدّر ظروف إخوانه وأدرك مقاصد آرائهم، والتمس الأعذار لهم، وأحسن الظن بهم.
أما الذي يعذر نفسه ويشتدّ على غيره ويحمل عليه.. فهذا ينطبق عليه ما جاء في الأثر: “إنّ أحدكم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه”. وفي هذا ذمّ لأصحاب هذا المنهج الرديء في التعامل مع المسلمين، حيث يعمد الإنسان إلى تبرئة نفسه أو تصغير عيوبها، بينما يُضخّم عيوب الآخرين ولا يقبل لهم عذراً، وكأنه نسي أو تناسى ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لمن اشتغل بعيوب نفسه: “طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس”. رواه البزّار بإسناد حسن.
وإذا اختلف أخٌ مع أخيه، أو جماعة مسلمة مع أختها، فالتأدب بأخلاق الكبار في معالجة ذلك الاختلاف.
ولنتذكّر كيف اختلف الصحابة، رضوان الله عليهم، في بعض الأمور، بين يدي نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وكيف تجاوزوا الاختلاف وكان الوئام، ببركة توجيهه صلى الله عليه وسلم، وبسبب الإيمان الذي كان يعمر قلوبهم ويجعلهم يحبون الله ويحبون فيه.