سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ارتضاه لنا الله تعالى رسولاً ونبياً وأسوة حسنة، هو الهادي والقائد والمربي والمعلم والقاضي… عليه أفضل الصلاة والتسليم. ونحن، في هذه السطور، نشير إلى بعض الدروس التربوية التي نستفيدها من هديه صلى الله عليه وسلم في شأن التربية والتعليم.
1- اعتماد البيان العملي لتوضيح طرائق التنفيذ:
كثيراً ما يسمع الطفل أو الكبير شرح مسألة ما، لكنها لا تكون واضحة في نفسه كما لو رآها تُنَفَّذ أمامه. وهذا ما كان يحرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلّم أصحابه. ولعل الأمثلة من السنة النبوية على هذا الأسلوب كثيرة. منها:
ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطَّهور؟ [أي الوضوء]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء فغسل كفيه ثلاثاً حتى استوفى، ثم قال: “فمن زاد على هذا أو نقص، فقد تعدى وظلم”.
وأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الصلاة وقال: “صلّوا كما رأيتموني أصلّي” أخرجه أحمد والبخاري، وأنّه صلى الله عليه وسلم حجّ وقال: “خذوا عنّي مناسككم” رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة، وأنه صلى الله عليه وسلم مرّ بغلام يسلخ شاةً وما يُحْسِن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَنَحَّ حتى أُرِيَك” فأدخل يده بين الجلد واللحم فدَخَس بها [أي دفع]، حتى دخلت إلى الإبط. والحديث رواه أبو داود.
2- مراعاة مراحل النمو، فلكل مرحلة من مراحل العمر، بدءاً من الطفولة المبكرة، وانتهاء بالشيخوخة، توجيهات تناسبها. وفي الهدي النبوي نلتقط هذه القبسات:
– سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤذّن في أذُن المولود ليكون أولَ ما يطرقُ سمعه كلماتُ التوحيد، وقد روى الإمامان أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة [أي بالأذان الذي يؤذَّن به للصلاة].
وفي البدء في التربية منذ اليوم الأول تعليم لنا أن التربية تبدأ مع بدء الحياة.
وكما يقول الأستاذ محمد قطب في “منهج التربية الإسلامية”: “فقدرة الطفل على الالتقاط الواعي وغير الواعي، كبيرة جداً، أكبر مما نظن عادةً، ونحن ننظر إليه على أنه كائن صغير لا يدرك ولا يعي”!.
– كما سنّ لنا أن نعطي الولد حقه من اللعب واللهو، إذ اللعب للطفل نشاط تربوي ينمي قدراته البدنية النفسية والعقلية.
وقد كان لعائشة رضي الله عنها، وقد تزوجت صغيرة، ألعاب، فكان صلى الله عليه وسلم يرعاها في ذلك ويقدّر حبها لها.
وكان لأحد أطفال الصحابة، وهو أبو عمير، نَغْرٌ [طائر صغير كالعصفور] يلعب به، فكان صلى الله عليه وسلم يداعبه بذلك ويمازحه.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير – وهو فطيم – كان إذا جاءنا قال: “يا أبا عُمير! ما فعل النُّغَير” لنغْر يلعب به.
وكان بعض أهل الحبشة يلعبون في المسجد، وكانت عائشة تحب أن تنظر إلى لعبهم، فكان صلى الله عليه وسلم يقدّر رغبتها، ويعينها عليها:
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر لي بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمُه. فاقدروا قَدْر الجارية الحديثةِ السنِّ، الحريصة على اللهو.
– وسنّ لنا أن نتدرج مع الطفل في العبادات والآداب. روى أبو داود والحاكم، بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع”.
– وسنّ لنا أن نسلّم على الأطفال إذا لقيناهم، فنعلمهم هذه السنة الطيبة، ونُشعرهم بشخصياتهم.
أخرج الأئمة أحمد والبخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: “… فخرجت إلى صبيان يلعبون، فجئت أنظر إلى لعبهم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم على الصبيان يلعبون…”
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس أنه مرّ على صبيان فسلّم عليهم، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
– وبيّن لنا أن التكليف الشرعي لا يبدأ قبل سن البلوغ، وأن أي توجيه وأمرٍ للطفل إنما يكون لتعويده وتهيئته لما بعد البلوغ، ففي الحديث الذي رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه: “رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ”.
– وسنّ لنا أن نرحم الصغار ونوقّر الكبار، ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس منا من لم يُجِلّ كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرِفْ لعالمنا حقه”، وهو حديث حسن.
– كما سنّ لنا أن نعوّد الصغار حضور مجالس الكبار لتقوى شخصياتهم، وتتسع آفاقهم، ويزدادوا علماً وخبرة وتجربة. هكذا كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أخبروني بشجرة، مَثَلُها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا تَحُتُّ ورقها”. فوقع في نفسي النخلة، فكرهت أن أتكلم وثَمَّ أبو بكر وعمر. فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “هي النخلة”. فلما خرجتُ مع أبي قلت: يا أبتاه، وقع في نفسي النخلة. قال: ما منعك أن تقولها؟! لو كنتَ قلتها كان أحبّ إليّ من كذا وكذا. قال: ما منعني إلا أنّي لم أرَكَ ولا أبا بكر تكلّمْتُما، فكرهتُ.
ومثل ذلك كان عمر يُدخل ابن عباس، وهو في مطلع شبابه، مع أشياخ بدر، وقصته في سؤالهم عن تفسير سورة النصر وجواب ابن عباس مشهورة.
3- ضرب الأمثلة الحية:
وإذا كان القرآن قد ضرب لنا الأمثال في شؤون كثيرة، فإن الرسول المربي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك لما له من دور تربوي فعّال. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة…” رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة” رواه أحمد والشيخان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن االخطايا” رواه أحمد ومالك والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه.
4- التوضيح بالرسوم:
وهو أمر يجلو الغامض، ويرسّخ الواضح، ويشدّ الانتباه. وفي السنة النبوية نماذج عدة من هذا الأمر، منها:
ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جابر قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطَّ بيده على الأرض خطّاً هكذا وقال: هذا سبيل الله، وخطّ خطّين عن يمينه، وخطين عن شماله وقال: هذا سبيل الشيطان. ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: ((وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل)).
وروى الأئمة أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطّ خطّاً مربعاً، وخطّ خطّاً وسط الخط المربع، وخطوطاً على جنب الخط الذي وسط الخط المربع. وخطاً خارجاً عن الخط المربع. قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال: هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط التي على جنبه للأعراض تنهشه من كل مكان. إن أخطأ هذا أصابه هذا. والخط المربع الاجل المحيط به. والخط الخارجي الأمل.
5- استخدام القصة في التربية:
فالنفس البشرية تتفاعل مع القصة ما لا تتفاعل مع الفكرة المجردة. وقد حوت السنة النبوية عدداً كبيراً من القصص التربوي، دعت عدداً من المؤلفين الفضلاء إلى إفراد كتب خاصة للقصص النبوي، كما كتبت كتبٌ في القصص القرآني. ومن القصص النبوي:
– ما رواه البخاري من حديث سمرة بن جندب يقصّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا، فيها مشاهد متتابعة مروعة ورائعة، هي أمثلة للرجل يأخذ القرآن فيرفُضُه وينام عن الصلاة المكتوبة، والرجل الذي يكذب الكذبة تبلُغ الآفاق، والرجال والنساء الزناة والزواني، وآكل الربا…
– وما رواه الشيخان من قصة الأقرع والأبرص والأعمى.
– وما رواه أحمد والشيخان والنسائي من قصة المرأتين اللتين عدا الذئب على ابن إحداهما فادّعت كل منهما أن الولد الباقي هو ولدها، واحتكمتا إلى داود ثم سليمان عليهما السلام.
– وما رواه البخاري من قصة أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم وزوجه أم إسماعيل هاجر.
– وما رواه الترمذي من قصة الكِفْل، وهو رجل كان كثير المعاصي، ثم تاب حين راود امرأة محتاجة إلى المال فرآها ترتعد خوفاً من الله…
– وما رواه الشيخان من قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار.