تحدثنا في الحلقة الأولى عن خمسة دروس تربوية من الهدي النبوي، وهي:
1- اعتماد البيان العملي لتوضيح طرائق التنفيذ.
2- مراعاة مراحل النمو.
3- ضرب الأمثلة الحية.
4- التوضيح بالرسوم.
5- استخدام القصة في التربية.
والآن نكمل الدروس الخمسة الأخرى.
6- مراعاة الوقت المناسب للتوجيه والموعظة:
روى البخاري ومسلم: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكّرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدْت أنك تذكّرنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا.
وقد يجعل موعظته في الطريق لمن يركب خلفه على الدابة، كما في حديث ابن عباس، الذي رواه الترمذي، وفيه: “يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك. احفظ الله تجدْه تُجاهك…”
أو يجعلها تصحيحاً لخطأ يقع فيه أحد الأطفال، كما في حديث عمر بن أبي سلمة، الذي رواه البخاري ومسلم، قال: كنتُ غلاماً في حِجْر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصفحة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا غلام. سمِّ الله تعالى، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك”.
أو يجعلها تصحيحاً لخطأ يقع فيه الكبير، فيعلمه بطريقة تثير الانتباه، فيحفظ ذلك من وقع في الخطأ ومن شاهد الحدث. ومن أشهر ذلك حديث المسيء صلاته، الذي رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو أن رجلاً دخل المسجد فصلّى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم عليه، فرد السلام وقال له: “ارجِعْ فصلِّ فإنك لم تصلِّ” فعاد الرجل وصلى ثانية ثم ثالثة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: “ارجِعْ فصلِّ فإنك لم تصلِّ” قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أُحْسِن غير هذا! وعندئذ علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بما يوضّح له الخطأ الذي كان يقع فيه.
أو يجعلها دعوةً إلى الإسلام، وهو يعود غلاماً يهودياً. ففي صحيح البخاري: “فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال: “أسلمْ” فنظر إلى أبيه وهو عنده [كأنه يستأذنه] فقال: أطِع أبا القاسم. فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”.
7- إسداء النصح المباشر أحياناً، وغير المباشر أحياناً.
قد يجد الناصح فرصة مواتية لتوجيه النصح لأخيه المسلم بشكل مباشر وصريح، لا سيما إذا كان المقام يقتضي ذلك، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولعل الأحاديث السابقة تمثل نماذج من هذا: حديث ابن عباس وحديث عمر بن أبي سلمة وحديث الغلام اليهودي. وقد يكون النصح غير المباشر أجدى في ظروف أخرى. فكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك بقوله: ما بال أقوام يفعلون كذا:
عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر. فقام صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟! ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”. رواه أحمد.
8- الأمر بالعدل بين الأولاد:
وهو أمر تربوي جدير بالاهتمام، إذ يكون الولد حساساً تجاه أي تمييز لأحد إخوته عليه، لا سيما إذا لم يدرك الولد سبباً وجيهاً لهذا التمييز.
روى الأئمة أحمد وأبو داود والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعدلوا بين أولادكم. اعدلوا بين أولادكم. اعدلوا بين أولادكم”.
ولا يقتصر هذا العدل على الإنفاق والهدية بل يلاحَظُ حتى في القُبلة.
روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بُنَيٌّ له، فقَبَّلَه وأجلسه في حِجْره، ثم جاءت بُنَيّة فأخذها فأجلسها إلى جنبه [ولم يقبّلها] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “فما عَدَلْتَ بينهما”!.
9- إعانة الولد على البر بوالديه:
فإن البر بالوالدين من آكد الواجبات، لكن لسلوك الوالدين مع أولادهما دوراً في إعانتهم على هذا الواجب، أو تنفيرهم منه، فحُسن التربية، واللطف في المعاملة، والعدل بين الأولاد، والرفق في النصح والتوجيه، وتمكين الولد من تنمية شخصيته، واستعمال الثواب والعقاب بحكمة، والقدوة الحسنة في البر، كل ذلك يعين على البِرّ، ويجعله يصدر تلقائياً من نفس الولد.
روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رحم الله والداً أعان ولده على برّه”.
وروى الحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عفُّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم، وبرُّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم. ومن أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك محقاً أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يَرِدْ عليَّ الحوض”. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح.
وفي هذا الحديث فائدة أخرى وهي أنك إذا رأيت أخاك أخطأ معك، ثم جاء ينكر أنه أخطأ، فهذا اعتراف منه بأن هذا السلوك خاطئ. فاقبلْ منه ذلك!.
10- الحوار ومخاطبة العقل والوجدان:
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتفي، في كثير من الأحيان، ببيان الحكم الشرعي، بل كان يعمل على الإقناع به، بل يعلّم أصحابه طرائق استنباط الأحكام الشرعية.
روى أحمد والطبراني، بإسناد صحيح، عن أبي أمامة أن فتى من قريش أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذَنْ لي في الزنى!. فأقبلوا عليه وزجروه فقالوا: مه، مه!. فقال صلى الله عليه وسلم: “ادنُهْ” فدنا منه قريباً، فقال: “أتحبُّه لأمك؟” قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك! قال: ” ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم”.
قال: “أفتحبّه لابنتك؟” قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”.
ثم ذكر له عمته وخالته… قال: فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه” قال: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء!.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أقنع الفتى حين خاطب عقله ووجدانه، وجعله ينفر من المعصية بعدئذ، فإن في الحديث الآتي يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فتوى في مسألة الحج، فلا يكتفي أن يفتي السائل، بل يعلِّمه طريقة الاستنباط كذلك:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نَذَرت أن تحجّ، وإنها ماتت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كان عليها دَيْنٌ أكنتَ قاضِيَه؟!” قال: نعم. قال: “فاقضِ الله، فهو أحق بالقضاء” رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد رسولاً ونبياً ومعلماً وقائداً وهادياً وبشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، والحمد لله رب العالمين.