خلق الله الناس مختلفين في صفاتهم البدنية والعقلية والنفسية، فكانوا متفاوتين في فهومهم وأذواقهم وقناعاتهم واجتهاداتهم واتجاهاتهم. فلا يكاد الرجل يسمع رأياً لغيره، أو فتوى في الدين، إلا أن يوازن بين ذلك وبين ما يرى أو يعتقد أو يهوى… فيقبل أو يرفض. وقد يكون ترجيحه لرأي ناشئاً عن ثقة بصاحب الرأي أو موافقته لمذهبه واتجاهه.
والمسلم الصادق إنما يتحرى في ذلك ما يرضي الله تعالى، قبل أي اعتبار. ثم إنّه، لا سيما في هذا العصر، لا يسَعُه أن يمنع صاحب الرأي المخالف، مهما بلغت المخالفة، إنما يسعه أن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يوضح الحقائق، ويكشف الخطأ والزيف. وكما قيل: أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام.
ومع ذلك فإن ما يريد المسلم أن يعترض عليه من رأي أو فتوى، يمكن أن يكون من أحد أصناف ثلاثة:
فالصنف الأول: هو أن يكون هذا الرأي الذي يعترض عليه، إنما هو اجتهاد لبعض أئمة المسلمين أو أتباعهم، وهو اجتهاد يخالف اجتهاد أئمة آخرين.
وهنا يحق للمسلم أن يتبع ما يراه الأرجح والأقوى، وله أن يناقش وأن يأتي بالأدلة على وجاهة رأيه، وأن يتأدب بأدب العلماء فلا يسفّه الرأي الآخر، ولا يحقّره ولا يسخر منه…
وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في دلالة قوله: “لا تصلّوا العصر إلا في بني قريظة”. فأقرّ – عليه الصلاة والسلام- الفريقين. والحديث رواه البخاري ومسلم.
وما أكثر المسائل التي اختلف فيها علماء الإسلام: فهل قراءة الفاتحة للمقتدي وراء الإمام واجبة أم مكروهة؟. وهل يجب إخراج صدقة الفطر من التمر والبرّ وما يتبع ذلك من الأطعمة، أم الأفضل دفع قيمتها نقداً؟. وهل في حلي المرأة زكاة أم لا؟. وهل أضحية العيد واجبة أم مسنونة؟. وهل يطالب بها كل فرد قادر من المسلمين أم أن أضحية واحدة تكون عن أفراد الأسرة جميعاً؟… فكل ذلك وأمثاله مما اختلف فيه أهل العلم، وللمسلم أن يختار من أقوالهم ما يراه الأصوب، ولا يطعن فيمن اختار قولاً آخر.
***
والصنف الثاني من الآراء والفتاوى: هو مما يخالف ما أجمع عليه علماء الأمة، أو ما قارب إجماعهم، فهنا لا بد لأهل العلم والحكمة أن يدحضوا ذلك ويبيّنوا عواره، ويكشفوا زيفه، ويُجَلّوا الأدلة حتى لا ينخدع العوام والبسطاء، لا سيما إذا دلّت القرائن على أن أصحاب هذه الآراء إنما يريدون هدم الدين والتشكيك في ثوابته، كالذي يزعم أن حصة البنت من الميراث في الإسلام كحصة أخيها، وأمثال ذلك من المزاعم.
***
والصنف الثالث: هو ما يصدر عمّن لا يبالي بالإسلام، ولا يرفع بذلك رأساً، فهو يحكّم هواه، أو يتبع أهواء قوم آخرين، فيطلق الأحكام التي يريد… وهذا شأن العلمانيين الذين يدّعون العبقرية وحسن الفهم لمصلحة الفرد والمجتمع. وهؤلاء ينبغي الرد على دعاواهم، وبيان غرورهم وجهلهم، وكشف الفساد في رأيهم، ودعوتهم للهدى والحق.
***
وإن تعجب فاعجب لمسلم ينتفض ثائراً بوجه المسلم الآخر الذي اتبع رأياً لعلماء معتبرين، لمجرد أن هذا الرأي لا يروقه أو لا يوافق مذهبه… وفي الوقت نفسه يسكت عن فتاوى الصنف الثاني التي تخالف الإجماع أو قول الجمهور، وعن آراء الصنف الثالث الذي يريد أن يسوق الأمة بعيداً عن دينها، وقد يفلسف ذلك بأنه المرونة وأنه تقبُّل الرأي الآخر، وأنه الحكمة.
ألا فلنُعظّم شرع الله، ولنعلم أن اختلاف الأئمة في استنباط الأحكام هو فسحة للأمة ورخصة، وليس سبيلاً للفُرقة والشحناء. ولنوحّدْ موقفنا في الذب عن شرع الله أمام العابثين والجاهلين والمارقين.