الإخوان المسلمون في سورية

لا تجعلوا الاجتهادات أصولاً

ما أجمل عبارة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين قال: “ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة”، أقتبس هذا القول في زمن يراد فيه باسم نشر العلم والتخصص إحياء خلافات مذهبية، سواء على مستوى الفقه، أو على مستوى الاعتقاد، بين مذهبي السلف والخلف، وكأن الأمة اليوم متّحدة متآلفة متآخية متحابة، فلا مانع من طرح مثل هذه المواضيع وتشجيعها!! وهناك جهات رسمية تشجعها، لتفتك بما تبقى من علاقات المحبة بين أبناء الشعب الواحد!!

 

إلى حد بعيد وأهل هذا البلد في العموم لا يعرفون التعصب المذهبي العقدي أو الفقهي، وقد نشأنا في المساجد والجامعات وجملة أدبياتنا وثقافتنا هي هذا الدين العظيم الجامع للأمة، نقرأ عن مذهب سلف وخلف، وعن المذاهب الأربعة وغيرها، ولكن بمنتهى الاحترام والاستيعاب للخلاف، فهي اجتهادات في قضايا فرعية، حتى لو كانت عقدية، فليس كل شيء في الاعتقاد أصولاً، فهناك الفروع التي لا تمس بنيان الإيمان بأركانه المعروفة، ولكن دخل التعصب، فأفسدَ الأمرَ كلَّه، وبدأنا نرى الخصومةَ والكراهية، فالتعصّبُ -وغالباً يغذيه الشيطان- لا شك قائدٌ صاحبَه إلى مرحلة تلو مرحلة، في النظر إلى المخالف على أنه مخطئ، ثم يصبح مبتدعاً، ثم ضالاً، ثم خارجاً من الدين، وربما يُلحق بعضهم النتيجة المُرَّة بحِلّ دمه!!

 

وجود الآراء والمذاهب أمر واقع لا محالة، فلكل مذهب دعاته ومنابره الإعلامية والرسمية، وسَبَقَ عِلم رجاله إلى كل بلد مع هذا الفضاء الإعلامي المفتوح، والعلاجُ ليس بتجريح المذهب الآخر ومحاولة إلغائه، بل في إحياء أدب الاختلاف، فكلهم أهل سُنّة، وهي مذاهب معتبرة على كل واحد طائفة من العلماء المشهود لهم بالفضل والخير، فاستيعاب الآخَر أوْلى من استعدائه، وقد كانت أخلاق الصحابة والسلف عموماً هكذا، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، بل هي بحبوحة الإيمان وتعظيم حق المسلم، وتأكيد حرية رأيه واختياره، ما دام في إطار الإسلام العظيم بأركانه وأركان الإيمان نظرياً وعملياً.

 

ومثل الاختلاف في المسائل الإيمانية الاختلاف في المسائل الفقهية، فالاختلاف سنة بشرية: “ولا يزالون مختلفين”، والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على اختلافهم، وأقول: إذا شاء الله تعالى لكتابه الكريم أن نختلف في قراءته، فيما هو معروف بالقراءات العشر المتواترة، اختلافَ تلاوة وأداء، واختلافاَ في بعض الكلمات التي تعطي معاني مختلفة اختلاف إثراء لا تضاد، فمن باب أولى أن يكون الاختلاف في الفهم، ومن ثم الاختلاف في الحكم المنبثق عن هذا الفهم، وهكذا، ففي الأمر سعة، والله تعالى أراد التوسعة على الناس، وما يزال العلماء يستنبطون المعاني الكثيرة من النصّ الواحد، فما الذي يضير في أن أتبع رأياً معتمداً على فهم، أو رأياً آخر معتمداً على فهم آخر، وهكذا!

 

هذه هي البحبوحة التي ينبغي أن ننشر رحابتها وآفاقها، كيف يعذِر بعضُنا بعضاً، وكيف يحترم بعضُنا بعضاً، وكيف تكونُ عندي الروحُ الإيمانية المرنة في أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب، فمظلة الإيمان والإسلام تجمعنا وتظلنا وتشعرنا بالأمان والسعادة في مسيرنا إلى الله تعالى.

 

يشرح الشاطبي قول عمر بن عبد العزيز أعلاه، فيقول: “ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتّفق عادة، فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلَّفين باتباع خلافه، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق، وذلك من أعظم الضيق، فوسّع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتحَ باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم (من رحم ربك)؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله”.

 

أزعم أن العالِم الحقيقي هو الذي يدرك هذه البحبوحة من مساحة الاختلاف وضرورة التعامل معه بأدب، أما التعصّب فهو ديدن الجهلاء وصغار أهل العلم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا”، وقال الشافعي: “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!”، فهي أخلاق الفضلاء وعلمهم الحقيقي الذي يستشعرون من خلاله أصلاً عظيماً هو وحدة الأمة وقوتها الذي لا يضير معه بعض الاختلافات الفرعية التي هي طبيعية راجعة لطبيعة الدين نفسه.

 

هو أدب الاختلاف إذاً، وما كان من أمور انتهت فالحكمة ألا نحييها من جديد، فقد كان التعصب المذهبي يؤدي بهم إلى إقامة أربع صلوات في المسجد الواحد، ولا يتزوج أتباع مذهب فقهي من أخرى تتبع مذهباً آخر، وهكذا، واليوم نجد من يريد إحياء هذا الاختلاف بحجج العلم التخصصي، وليتهم ينشرونه بهذا الأدب الذي يحترم المخالف، بل بتغذية روح التعصب الذي هو باب شر لا محالة.

 

انظروا إلى شيء من أدب الاختلاف، يقول الشافعي: “ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته”، وهذا الإمام مالك يرفض حمل الناس على الموطأ حين طلب منه الخليفة ذلك، وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه، فقال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، معتبراً أن لكل بلد علماءه وآراءه الفقهية، فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له. قالت عائشة رضي الله عنها عن أحد الصحابة وقد اختلفت معه: أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، وكان الذهبي مثال العالم المتفتح المنصف، فكان يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي، مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف، ونرى الذهبي يتعذر عن الظاهرية، قائلاً: “ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي”، وقال عن الظاهرية أيضاً: “وفي الجملة فداود بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس المعرفة، من أوعية العلم، له ذكاء خارق وفيه دين متين، وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق”.

 

ويقول ابن تيمية: “وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله”، وقال أيضاً: “الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازَع فيه من الفروع الخفية، فكيف يُقْدَحُ في الأصل بحفظ الفرع!”.

 

الغد الأردنية

إخوان سورية

أضف تعليقاً