د. محمد خازر المجالي
أمران ذكرهما الله تعالى يتبادلهما مع عباده المؤمنين المتقين، الحب والرضى: “يحبهم ويحبونه”، “رضي الله عنهم ورضوا عنه”، وفي الموضعين فالله تعالى هو الأول: يحب ويرضى، فالله هو الموفق ابتداء إلى هذه الميزة التي يستحقها من نذر نفسه لله تعالى، والتي يستشعر من خلالها حقيقة الإيمان، وروعة الثواب، وكما قال أحد السلف: لا أعجب من حب العبد لله، ولكن من حب الله للعبد، وكذا الرضوان عموما، فهي علاقة بين العبد وربه، يستشعر من خلالها مدى قربه من خالقه، ومدى الاستشعار بمعيته، وهي سعادة ما بعدها سعادة، استشعار أنك تسير في هذه الأرض وعليها، وقلبك معلَّق بخالقك، تؤدي ما أمر، وتنتهي عما زجر، وتبتغي رضاه وطاعته، تستغفره إن زللت، وتشكره على كل حال وتحمده، فأنت بهذه المشاعر إنسان إيجابي معطاء متفائل.
ورد في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثير من النصوص التي تبين حب الله لعباده، فهو يحب التوابين والمتطهرين والمتصدقين وأهل الطاعة عموما، ولعل أكثرهم محبة الذين يبتليهم، ومع هؤلاء جميعا من أذنب وأسرف على نفسه، فالله تعالى يحبهم ويفرح لتوبتهم أكثر منهم، بل يقبل عليهم بعفوه ومنه ورحمته.
ولكن وصف الحب المتبادل فقد ورد في سياق الحديث عن قوم يأتون بعد أن تكون الأمة في محنة، يرتد بعض أبنائها، والردة هنا تلقي ظلالا كثيرة تنبئ عن تيه وضلال وشتات وفرقة وهزيمة، فقد ذكر الله تعالى في سورة المائدة الحكم بما أنزل سبحانه، ثم اتخاذ غير الله ورسوله والمؤمنين أولياء، هنا يأتي الحديث عن الردة، وكأنه تعالى يقول إن لم تحكموا بما أنزل الله فسيقودكم هذا التراجع إلى البحث عن أولياء جدد، وهذا قطعا سيقود إلى ردة، والحل الذي يذكره الله تعالى هو أن يأتي بقوم “يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم”، وكأن حال الأمة بعيد عن الله، تائه متخل عنه سبحانه، هنا يأتي الحديث عن القوم المنقذين، يأت بهم الله، أول وصف لهم أنهم يحبهم الله ويحبون الله، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم،، وبعدها تصحيح الولاء، فلا بد أن يكون لله ورسوله والمؤمنين، وهو الطريق إلى النصر والغلبة.
الأمة في عمومها مطالبة بتفقد حالها مع الله تعالى، الخالق وحده، وسواه مخلوق، والمستحق للعبادة والقصد وحده، وحين يعرف الإنسان خالقه يعظمه، ويعرف قدر نفسه وضعفه، والكل بحاجة إليه فقراء إليه: “يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد”، فلا أحد مستغن عن الله، وهو اللطيف الحليم سبحانه، نعصيه ويرزقنا، نهجره ويتقرب إلينا، يتداركنا برحمته، ويحرسنا بعنايته ولطفه، سبحانه ما أعظمه، وإن أصاب أحدا بما يسيئه فلحكمة، فربما يريد به خيرا، حتى لو كانت في ظاهرها أمر سوء، “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون”، والشر الوحيد في حياة الإنسان أن يكون معرضا عن الله، أو أن يستمر في عصيانه وضلاله وغفلته، تأتيه الرسائل الكثيرة المنبهة له، ومع ذلك يتمادى في غيه، تأخذه العزة بالإثم، ويصير مستكبرا على أمر الله.
يا أيها العبد التائه، اعلم أن العيش مع الله وفي الله ولله سعادة ما بعدها سعادة، وحتى نسلكها لا بد من الطاعة، ولا بد من تفقد المواضع التي ذكر الله تعالى فيها حبه للعبد، وهنا نتذكر الحديث القدسي: “ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”، وهنا نتفكر: ما سر ذكر النوافل هنا؟ إنها حالة الرضى، فكأن العبد إن أقدم على النوافل (وهي المندوبات الزائدة على حد الفريضة) فكأن العبد يقول لله: يا رب، أنت فرضت عليّ كذا وكذا، فأنا أفعلها وزيادة، وهي علامة الرضى، ولذلك يحب الله تعالى هذا العبد المقبل عليه بتمام الخضوع والاستسلام واليقين، بأن ما فرضه الله أو طلبه هو خير.
من فوائد النوافل حين يؤديها العبد (غير جلب حب الله) هو جبر النقص الحاصل في الفريضة مثلا، فالنوافل في الصلوات تجبر أي نقص في الصلاة المفروضة، وكذا الصيام والصدقة وغيرها، ومن منا الذي لا يقصر في حق الله، ولكنها رحماته، ورحمته وسعت كل شيء، وهي قريب من المحسنين.
يجدر بالمسلم في أوقاته كلها (وليس عند الحرج والضيق والشدة فقط) أن يتعرف على الله تعالى ويقصده بإخلاص، فهو وحده النافع الضار، المحيي المميت، القادر على كل شيء، ولا يتم شيء في هذا الكون إلا بعلمه ووفق قدرته وحكمته، فليسلم أحدنا أمره إلى الله، ويأخذ بأسباب الأمور، فسنن الله تعالى لا تتخلف، وبعد ذلك فما يختاره الله تعالى هو خير، ويتفاءل أحدنا في حياته لسبب رئيس هو أن الله تعالى موجود، وبيده مقادير الأمور كلها، سبحانه.
الغد الأردنية