الناس متفاوتون في توجهاتهم، وفي أخلاقهم، وفي أذواقهم… وفي هذا الاختلاف فرصة للتنافس والتمازج والتكامل… والتنازع…
ومن هنا لا نستغرب أن تقوم بين اثنين، أو أكثر، علاقة حب وأخوّة، أو علاقة بغض وجفاء، أو علاقة تعاون محدود… كما لا نستغرب أن تتحول العلاقة بين حين وآخر، إلى شكل جديد غير الذي كانت عليه.
وهذا كله لا يعني أن نكتفي بوصف الواقع، وأن نلقي الحبل على الغارب، فإن النفوس إذا ما أُهملت جنحتْ، وكم من حبٍّ غالى به إنسان فساقه إلى تَهْلكة، وكم من خلاف أدّى ببعض أطرافه إلى البغض والتحقير والافتراء وفساد ذات البين…
لقد حكم الله عز وجل على نفوسٍ بالفلاح، ونفوس أخرى بالخيبة… لأن أصحابها قد زكَّوها أو دسَّوها ((قد أفلح مَن زكّاها، وقد خاب مَن دسّاها)). فمَن أتبع نفسه هواها، وأطلق لها العنان في بُغض مَن تخالفه فقد أوردها المهالك.
وليس مؤشراً عظيماً في الخير أن تُحبّ من يرضيك، فهذا شعور لا يكاد يفارق أي نفس، ولكنّ مؤشر العظمة أن يكون حبُّك، حين تُحبّ، في الله، وأن يكون بُغضك كذلك في الله، وأن تملك نفسك عند الغضب، وأن لا تقول عند المصيبة إلا ما يُرضي الربّ، وأن تكون سريع الفَيئة، وأن تتذكّر الفضل بينك وبين إخوتك، وأن لا يُنْسيَك الغضب ما كان من أيام الصفاء، وأن لا تحوّل الخصومة إلى غِلّ وحقد، بل توطّن نفسك على العفو والصفح.
حين تغضب من أخيك لماذا لا تسأل نفسك: أكان الأمر جديراً بهذا الغضب؟ فإذا مرّتْ على الغضب ساعات هلّا سألتَ نفسك: أما آن الأوان لأن ينطفئ هذا الغضب؟! وإذا كان في أخيك من الصفات والأخلاق ما يدعوك إلى الغضب حقاً، أفليس فيك أنت من الصفات والأخلاق ما يدعو كذلك إلى الغضب؟ أفليس حريّاً بك أن تتحمّل وتصفح، أو أن تكتفي بالعتاب العابر… كما يتحمّل منك إخوانُك ويصفحون؟ أم أنك المُبرّأُ من العيوب، المُترفّع عن كل نقص؟!.
لنتذكّر قول الله سبحانه: ((ولا تنسَوُا الفضلَ بينكم))، وقوله سبحانه: ((وإذا ما غضبوا هم يغفرون))، وقوله سبحانه في وصف أهل الجنة: ((ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُررٍ متقابلين)). لنعلم أن الغلّ خلُق رديء يُنزع مما في نفوس المؤمنين حتى يدخلوا الجنة.
ثم لنتذكّر هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام أحمد وغيره، وقال الحافظ العراقي: رواه أحمد بسندٍ صحيح على شرط الشيخين: عن أنس رضي الله عنه قال: “بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلعُ عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطِف لحيته ماء من وضوئه، معلِّق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مثل مرتبته الأولى، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، فلما قام الرجل أتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحَيْتُ أبي فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيتَ أن تؤويَني إليك حتى تُحِلّ يميني فعلتَ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله بن عمرو يحدّث أنه بات معه ليلة فلم يرَه يقوم من الليل شيئاً غير أنه كان إذا تقلّب على فراشه ذكَر الله وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر فيُسبغ الوضوء. غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكِدْت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعتَ أنت تلك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك. فقال: ما هو إلا ما رأيت. فانصرفتُ عنه، فلما وليّتُ دعاني فقال: ما هو إلا ما قد رأيت، غير أني لا أجد في نفسي غِلّاً لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال له عبد الله بن عمرو: هذه التي بَلَغَتْ بك، وهي التي لا نطيق!”.
ثم لنذكر هذه القصة: في مؤسسة لسكة الحديد، غضب المهندس، رئيس أحد أقسام المؤسسة، من تصرفات المدير العام، فأرسل إليه رسالة شديدة اللهجة يفضح فيها ما يعدُّه أخطاء وانحرافات… وبعد يومين استدعى المدير العام ذلك المهندس. حضر المهندس إلى غرفة رئيسه وقد هيّأ نفسه للصدام معه، وليكنْ ما يكون. لكنه فوجئ بأن المدير العام فتح معه موضوعات لا علاقة لها بالرسالة وما فيها من تهجّم، فقال المهندس: لقد كنتُ أرسلتُ إليك رسالة، أما وصلتْ إليك؟ قال: بلى، وإنني غاضب مما فيها، ولذلك سأؤجّل الحديث عنها إلى أن يهدأ غضبي، إذ لن يكون الحوار موضوعياً حتى يذهب عني الغضب!!.
وأخيراً نذكر أن الواحد منا حين يختلف مع إنسان كبير، ومهما بلغت حدّة الاختلاف، فإن النفس الكبيرة سرعان ما تعود إلى الصفاء والهدوء… تماماً كالحليب يغلي ويفور… فإذا أطفئت النار تحته ذهب الغليان والفوران في لحظة ثم بدأ يبرد… أما أن يتحول الغضب إلى ضغينة وحقد فهذا شأن صغار النفوس أو مرضى القلوب. وقديماً قيل:
لا يحملُ الحقد مَن تعلو به الرتبُ
ولا ينال العُلا مَن طبعُه الغضب