الأهداف العامة للنظام السياسي
تسعى الشريعة الإسلامية من خلال مجموعة النظم العامة التي تضبط بها حياة الإنسان، ومن خلال النظام السياسي بشكل خاص إلى تحقيق الأهداف التالية ضمن مشروع الاستخلاف الإنساني العام:
1 ـ الأمن:
اعتبر (الأمن) المقصد الأول ليس من النظام السياسي فحسب، بل من الشريعة نفسها.
فمقاصد الشريعة، حسب فقهاء الإسلام، هي حفظ أو حماية -وهي تعبيرات أمنية واضحة- (الدين ـ والنفس ـ والعقل ـ والعرض ـ والمال).
مطلب أساسي في النظام السياسي العام أن يحفظ على الناس معتقداتهم ويحميها ويكفلها ويصونها، وأن يحفظ حياتهم فلا تتعرض لأي شكل من أشكال العدوان الكلي أو الجزئي المباشر أو غير المباشر، بالقتل المادي أو المعنوي، ثم أن يحفظ عليهم عقولهم، بتوفير المناخ الملائم لحياة عقلية منهجية سليمة بالتعليم والتثقيف والتوجيه، ثم أن يحفظ على الناس أعراضهم، والعرض من التعبيرات التي تعني جميع أشكال الخصوصية الإنسانية.
في مشروعنا الحضاري لسورية المستقبل، يعتبر الأمن بكل شعبه هدفاً مركزياً للنظام السياسي.
والأمن من حقوق المواطنة الأساسية التي ينبغي أن يتمتع الإنسان بها بمجرد الانتماء إلى الوطن، وكم نصت عهود المسلمين في تاريخنا الزاهي على حفظ هذه الحقوق. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران: (ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد صلى الله عليه وسلم، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.
والأمن شرط من شروط الإنجاز والإبداع والبناء، فالإنسان الخائف، أو المتوجس أو القلق لن يكون قادراً على إثبات ذاته في هذه الحياة، فضلا عن أن يكون عنصر عطاء ونماء.
2 ـ المساواة:
يعتبر تحقيق المساواة العامة بين الناس هدفاً أساسياً للنظام السياسي العام، الذي ينشده الإسلام.
ولقد أقر الإسلام في إطار الثوابت العامة التي رسمها للإنسانية حقيقة المساواة بين بني البشر، هذه المساواة التي تقرر وحدة (الجوهر) الإنساني، فتسقط بذلك كل نظريات الأجناس والأعراق والألوان، لتكرس مكانها المساواة بين بني الإنسان.
ففي المعطى الإسلامي الثابت الذي لا يجوز الخروج عليه أن الناس كلهم لآدم، (أيها الناس إن ربكم لواحد، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى)
ووضع الإسلام قاعدة السواء الإنساني (الناس سواسية كأسنان المشط) أساساً لبناء نظام الاستخلاف العام الرشيد. وقد اقتضى مفهوم المساواة في الجوهر الإنساني، حزمة من الشرائع قامت على الخطاب الإنساني العام، جسدها القرآن الكريم بالحديث (عن الناس) أو عن (بني آدم) أو عن (الإنسان) أو عن (النفس) وهو خطاب مستحق للتأمل بأبعاده الإنسانية السامية ويكفي أن نشير هنا إلى قوله تعالى ((ولقد كرمنا بني آدم)) لنقرر أن هذه الكرامة الربانية الأولية تشمل كل أفراد النوع الإنساني.
وأن نشير إلى وقوف رسول صلى الله عليه وسلم لجنازة مرت به فقيل له إنها ليهودي فقال: (أليست نفساً). ولنقارن بقوله تعالى ((من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض)) لنفهم الإشارة إلى الحرمة المطلقة للنفس الإنسانية.
ومن المساواة في جوهر الإنسانية، ننتقل إلى المساواة في الحقوق المدنية العامة، التي تتيح للإنسان ضمن النظام السياسي العام لمشروع الاستخلاف، أن يتمتع بكافة الحقوق المدنية.
ونحن إذ نقرر هذه المساواة الحقوقية الدنيوية العامة منطلقين من شريعتنا الإسلامية، فإننا لا نرى أن ذلك يصطدم مع مفهوم التفاضل على أساس التقوى، لأنه تفاضل في حدود معينة، تفاضل بين الناس عند ربهم فقط، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وكون التقي كريما على الله لا يعطيه حقا عند الناس يزيد على ما لغيره من الحقوق، فالتقوى صفة تؤثر في صلة الإنسان بربه أكثر مما تؤثر في صلة الإنسان بغيره، والتفاضل الذي ينشأ عن التقوى هو تفاضل معنوي لا مادي.
إن شريعتنا الإسلامية تسوي في تطبيق نصوص الشريعة بين المسلمين وغيرهم في كل ما كانوا فيه متساوين، أما ما يختلفون فيه فلا تسوي بينهم فيه، لأن المساواة في هذه الحالة تؤدي إلى ظلمهم، ولا يختلف غير المسلمين عن المسلمين إلا فيما يتعلق بالعقيدة، ولذلك كان كل ما يتصل بالعقيدة لا مساواة فيه، وإذا كانت المساواة بين المتساوين عدل خالص، فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح، ولا يمكن أن يعتبر هذا استثناء من قاعدة المساواة، بل هو تأكيد للمساواة .
وإذا كان التشريع الإسلامي، قد ترك لغير المسلمين دائماً أن يتحاكموا إلى شرائعهم في أحوالهم الشخصية، فإنه لم يشر أبداً بنص صريح إلى تشريع يخص غير المسلمين في قضية مدنية، ولم يكن وارداً في منظومة التشريع الإسلامي في كل عهوده، وانتصاره، تطبيق المفهوم اليهودي ((قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)). فظلت حقوق الدائن غير المسلم مصانة عند المدين المسلم، ولو كان هذا المدين مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
في مشروعنا السياسي نعتبر المواطنة انتماء شرعيا يقوم على أساس هويتنا الإسلامية، ويعزز انتماءنا القومي، ومن هذا المنطلق نعرف للمواطنة حقوقها ونلتزم بواجباتها كواجبات إسلامية ووطنية وقومية.
وحين تعتمد (المواطنة) أساساً للمساواة في الإطار الوطني، تتساقط تلقائياً كل ادعاءات الوصاية المفروضة على شعبنا بمسميات باهتة، كما تتساقط كل الممارسات التي تستند على حقوق مكتسبة على أسس سياسية أو فئوية أو اجتماعية. وتبقى مقولة (لهم مالنا وعليهم ما علينا) سنة ماضية يسوس الإسلام بها كل من ارتضى أن يعيش بين جناحيه مما يعرف بالتعبير المعاصر بالأقليات.إن من عجائب تقلب الأيام، وتغير الدول، أن تصبح المساواة بمفاهيمها حقاً يطالب به السواد الأعظم من أبناء قطرنا. وهم الذين اعتبروه دائماً أعطية ربانية ليس لأحد أن يمن بها على أحد.
3 ـ العـدل:
(العدل أساس الملك) عبارة تراثية، وحكمة تناقلها الخلف عن السلف، بل اعتبرت من التراث السياسي الإنساني فهي منقولة عن الهند والصين وفارس.
والعدل اسم من أسماء الله الحسنى، وقيمة عليا تفرض وجودها على حياة الناس، لتحمي حقوقهم، وتجسد مفهوم المساواة المجرد في لبوس واقعي معيش. فهو حالة عامة: قانونية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية، وفي كل ميدان من ميادين الحياة.
لقد اعتبر القرآن الكريم العدل من الدواعي الأساسية لإرسال الرسل وإقرار الشرائع ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)). كما اعتبر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه العدل بين الناس من العزائم التي لا رخصة فيها فقال: (أما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء) وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة. ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة) ويقول في موضع آخر من كتابه الحسبة (العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به بالآخرة.)
في مشروعنا الحضاري، نعتبر العدل بأبعاده كافة، هدفاً عاماً لمشروع الاستخلاف الإنساني ينبغي أن يتحقق في حياة الناس بأبعاده المادية والمعنوية. فالعدالة في قضاء قاض، كالعدل في فرصة وطنية تصل إلى مستحقها، كالعدل في حظ مواطن من ثروة وطنه.
ومن العدل خاصة العدالة في توزيع الثروة والفرصة. مع مشروع متكامل لإعطاء صاحب الحق حقه بعيداً عن الضنك والشقاء، وفي بعد العدالة هذا يتساوق النظام السياسي مع النظام الاقتصادي، لتحقيق هذا المطلب الإنساني العام.
4 ـ الحريـة:
الحرية هي الهدف الرابع من أهداف مشروع الاستخلاف الإنساني العام. فصيانة حرية الفرد والمجموع هو مطلب من النظام العام الذي يسود حياة الإنسان.
والحرية في منظورنا الحضاري حق إلهي أولي منح للإنسان مع خلقه الأول، بدون تمييز بين الناس بسبب أجناسهم وألوانهم. بل ترك للإنسان أن يزاول خياره المسؤول بين الإيمان والكفر ((وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) تحت طائلة الإنذار الرباني ((إنا أعتدنا للظالمين ناراً)).
ولما كان تسلط الإنسان على أخيه بفعل ما يقع بيده من فضل قوة أو مال، يجعله قادراً على سلبه بعضاً من حريته أو كلها. فقد أنيط بمشروع الاستخلاف الإنساني العام أن يحفظ للناس حقهم في الحرية الذي يحمي كرامتهم، ويصون وجودهم، ويحقق بالتالي أهليتهم للتكليف والمسؤولية.
على أن تنتظم هذه الحرية ضمن مجموعة من الضوابط تشكل بصيغها العامة الفاصل بين الحرية والفوضى. ذلك أن الحرية إذا تعدت حدودها صارت إلى الفوضى، وحينئذ تكون عدواناً على حرية الآخرين، وحتى في دول العالم الحر، لا تغيب الضوابط أو الخطوط الحمر عن قانون الدولة، ولكل دولة من دول العالم خصوصيتها الحضارية، والقيمية التي تسعى دائماً لصيانتها والحفاظ عليها.
وتبقى الحرية، بأبعادها الفردية والجماعية، السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية مطلباً أساساً في مشروعنا الحضاري ضمن ضوابطها العامة. وهي شرط مواز لأساسيات النهوض والإبداع على كل صعيد.
المصدر: المشروع السياسي لسورية المستقبل- رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سورية