الإسلام منهج الحياة (2).. الأصل الأول في منهج الإسلام، أو: الهدف
أولاً: نتائج الحلقة السابقة
1- إنّ كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة يضعها البشر الذين يخطئون، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..
2- إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..).. هذا (الأساس) هو: (إنّ البشر هم الذين وَضَعوها)!..
3- إنّ الذي (يضع) منهجاً للحياة، يحوِّل نفسَه إلى (ربٍّ) من دون الله، وإنّ الذي (يطيعه) في معصية الله وينفّذ منهجه الوضعيّ، يحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لذاك الربّ المزيّف]!..
ثانياً: بعض وجوه الألوهية، والربوبية، والعبودية
1- لقد قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (بشراً)!.. كيف؟!..
– الجواب : بالطاعة، والخضوع التام له، في معصية الله عزّ وجلّ:
((قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)) (الشعراء:29).
إنه تهديد الطاغية فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام، إذ يريد فرعون من موسى، أن يتركَ رسالته التي أنزلها الله عزّ وجلّ إليه ليبلّغ بها الناس، ويخضع (بدلاً من ذلك) خضوعاً تاماً لفرعون الجبار الطاغية، ويطيعه في ضلاله وطغيانه وكفره وتألّهه، ويتّبع دستوره وتشريعاته وقوانينه!..
2- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (هوىً):
((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)) (الفرقان:43).
((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) (الجاثـية:23).
والهوى قد يكون فكرةً، أو شهوةً، أو عقيدةً فاسدةً، أو شهرةً.. يخضع لها الإنسان ويتحوّل إليها عن دِينه وعقيدته، وعن إله السماوات والأرضين.
3- كما قرّر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أنّ الإله يمكن أن يكون مالاً:
(تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخَميصة) (البخاري).
والمال قد يكون عقاراً، أو لباساً، أو زينةً، أو نقداً، أو ذهباً وفضةً.. يخضع له الإنسان وينساق وراءه، فيبيع دِينه ومبادئه بِعَرَضٍ من الدنيا الزائلة، ناسياً الله عزّ وجلّ.. وما أشدها من تعاسة، عندما يحوِّل الإنسان نفسَه إلى عبدٍ ذليلٍ للمال!..
4- وسبق أن قلنا: إنّ القرآن العظيم قرّر أنّ الربّ يمكن أن يكون (بشراً):
((.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)) (آل عمران: من الآية 64).
5- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ العبادة (بمعنى الخضوع والطاعة في معصية الله عزّ وجلّ) يمكن أن تكون للبشر:
((فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)) (المؤمنون:47).
((قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ)) (القصص:63). أي: (ما كانوا إيانا يطيعون ويعبدون هواهم الذي زيّن لهم طاعتنا).
لكن.. كيف يتحوّل الإنسان إلى إلهٍ أو ربٍ يُعبَد؟!..
القرآن العظيم يحسم القضية:
أ- الذين يُنظمّون شؤون الحياة بدساتيرهم وقوانينهم ومناهجهم، يتحوّلون إلى آلهةٍ وأرباب:
((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31).
فقد دخل عَديّ بن حاتم الطائي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية، فقال: [إنهم لم يعبدوهم يا رسول الله، فقال: بلى!.. إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام (أي نظموا لهم شؤون حياتهم بغير منهج الله عزّ وجلّ).. فاتّبعوهم (أي أطاعوهم)، فذلك عبادتهم إياهم]!.. (تفسير ابن كثير-ج2-ص348-طبعة دار إحياء الكتب العربية).
ب- الذي يطيع واضعَ القانون أو المنهج أو الدستور يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين:
فهذا خطاب العبيد يوم الحساب، لزعمائهم الذين أطاعوهم في الحياة الدنيا على الضلال:
((فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الشعراء:94-98).
يقول ابن كثير: (إذ نسوّيكم بربّ العالمين، أي: نجعل أمركم مطاعاً كما يُطاع ربّ العالمين).
ج- المنهج أو القانون الذي يضعه البشر يتحوّل إلى دينٍ للذين ينفذّونه:
((.. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) (يوسف: من الآية 76).
يقول ابن كثير: (لم يكن ليأخذه في حُكْمِ ملك مصر، أي: قانونه).
* * *
ثالثاً: الأصل الأول في الإسلام أو (الهدف): لا إله إلا الله محمد رسول الله
كلنا نقولها ونردّدها صباحاً ومساءً وفي الأوقات كلها، فهل نعمل بمقتضاها، ونبرّئ ذمّتنا أمام الحيّ القيّوم الذي لا إله سواه؟!..
أ- لنعلم أنّ الإيمان بهذا الهدف العظيم يقتضي ما يأتي:
1- نَبْذُ كل إلهٍ أو ربٍ غير الله عزّ وجلّ، فلا يتّخذ المسلم منهجاً للحياة إلا الإسلام، وينبذ مناهج الطواغيت وأذنابهم، ومناهج الآلهة والأرباب المزيّفين، ويرفض مشروعاتهم ومخطّطاتهم التي تستهدف الدين والوطن والإنسان والثروات والحاضر والمستقبل.. سواء أكانوا بشراً يشرّعون من عند أنفسهم، أو حجراً، أو هوىً، أو مالاً، أو متاعاً.. أو غير ذلك!..
2- وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الذي نقل منهجَ الله إلى الناس عن طريق الوحي، وفسّره ووضّحه، وأحاله إلى واقعٍ محسوسٍ، وبنى عليه أمة الإسلام ونظّم شؤونها.
3- أن يتحرّر المسلم المؤمن بهذا الهدف، من كل ظلمٍ وجَورٍ وبغيٍ ينجم عن المناهج البشرية الوضعية الخاطئة.. الظالمة.
ب- بعد ذلك، نسأل السؤال ذا الأهمية البالغة: هل يبقى المؤمن مؤمناً، إذا اتبع مَنهجاً غير مَنهج الله عزّ وجلّ، وأطاع طاغوتاً أو ربـّاً مُزيفاً أو قوّةً استعماريةً أو احتلاليةً أو عَقديةً على غير العقيدة الصحيحة للإسلام، وخضع لأصحابها في شؤون حياته أو في بعضها.. هل يبقى المؤمن مؤمناً إذا فعل ذلك؟!..
– للجواب على السؤال السابق نقول:
ما الفرق بين المشرك الذي يُنفّذ مَنهجاً للحياة غير منهج الله عزّ وجلّ، ومن يلهج بذكر هدف الإسلام العظيم: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل وقت، من غير أن يعمل بمقتضاه (1و2و3) الذي ذكرناه آنفاً؟!.. كيف يقول المسلم: لا منهج للحياة إلا منهج الله (لا إله إلا الله)، ثم ينفّذ مناهج الطواغيت والأرباب المزيّفين، وينصاع للمخطّطات الاستعمارية والمشروعات الاحتلالية، أو يتواطأ مع واضعيها لتنفيذها على شعبه وأمّته؟!..
بمعنىً آخر: كيف يُقرّ المسلم بطاعة الله عزّ وجلّ، وبتنفيذ منهجه القويم الصالح لكل زمانٍ ومكان، وينطق بالشهادتين، من غير أن يتبنى منهجه عزّ وجلّ، ومن غير أن ينبذَ مناهج البشر ومخطّطاتهم الشريرة؟!.. ثم يطيع -مع الله سبحانه وتعالى- مَنهجاً آخر وَضْعِياً يضعه الطواغيت من البشر، فيحوِّلهم إلى (أربابٍ) له، ويحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لهم، مع إقراره بعبوديته لله عزّ وجلّ، وبأنه سبحانه وتعالى هو ربه؟!.. أي: يُشرك عبادته لله.. بعبادة البشر (الطواغيت والأرباب المزيّفين والقوى الشريرة التي تستهدف أمّته وعقيدته ودينه)!.. أليس هذا هو: (الشرك) بأوضح معانيه؟!..
– يقول ربّ العزة سبحانه تبارك وتعالى في محكم التنـزيل، موضّحاً حقيقة الشرك في الإسلام وجوهره:
((.. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)).. (الأنعام: من الآية 121).
يقول ابن كثير في تفسير ذلك: (حيث عَدَلْتُم عن أمرِ الله وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيرَه، فهذا هو الشرك، كقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..)!..
– كما يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:
((.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) (المائدة: من الآية 44).
((.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (المائدة: من الآية 45).
((.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (المائدة: من الآية 47).
لنلاحظ كيف جاءت الآيات الثلاث في سورةٍ واحدةٍ متتابعةً تقريباً، ولنلاحظ الكلمات: الكافرون، الظالمون، الفاسقون!.. وكلها مرتبطة بالحكم بغير ما أنزل الله، الذي سيوقع الناس في: الكفر، والفسق، والظلم.. ولنلاحظ كيف ارتبط الظلم بالحكم بغير ما أنزل الله، وذلك ما شرحناه في حلقتنا الأولى السابقة (مصدر الظلم في المناهج البشرية)، عندما انتهينا إلى القاعدة الدقيقة: (الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..
ج- بعد هذا قد يقول قائل:
طالما أنّ خطر الشرك واقع على كل المسلمين، لأنّ حكامهم وأنظمتهم أو (أربابهم)، الذين قد يكونون حُكْماً فردياً، أو حزباً، أو طائفةً، أو عشيرةً، أو أسرةً، أو قوّةً خارجيةً، أو أي فئةٍ تحكم بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ، وبغير منهجه وشرعه القويم سبحانه وتعالى.. طالما أن هؤلاء يجبرونهم على تنفيذ شرعٍ غير شرع الله ومنهجٍ للحياة غير منهج الله.. فما السبيل للتخلص من هذا الخطر العظيم الـمـُهلِك في الدنيا والآخرة: الشرك؟!..
– الجواب في قوله عزّ وجلّ:
((فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)) (الفرقان:52).
وهذا ما ينقلنا لمناقشة (الأصل الثاني) في الإسلام، أو: (وسيلة تحقيق الهدف)، وهو: (الجهاد في سبيل الله)، الذي سنلقي عليه الأضواء، شرحاً وتفصيلاً وتوضيحاً، في الحلقة القادمة بإذن الله عزّ وجلّ.
يتبع إن شاء الله