الحديث عن أية جماعة يقود بالضرورة إلى الحديث عن مؤسسها، فهي فكرة في نفس المؤسس قبل أن تكون حقيقة مُجَسَّدة على الأرض، فضلاً عن أن قواعد سير الجماعة وأعرافها وقوانينها المهمة وملامح فكرها.. إنما تتبلور في أيامها الأولى حين يكون المؤسس على رأس العمل والبناء.
ولد حسن البنا في المحمودية بمصر بتاريخ 17/10/1906م ونشأ في بيت عريق في العلم والدين. فقد كان والده من علماء الحديث، وله فيه مصنفات عديدة. ففي هذا الجو ترعرع البنا، فتميز بالشغف العلمي والورع والزهد. وكان يداوم على قيام الليل وصيام الاثنين والخميس. وحفظ نصف القرآن صغيراً، ثم أتمه بعد أن ناهز الاحتلام.
وكانت غيرته على الإسلام تدفعه أحياناً إلى تغيير المنكرات بلسانه ويده. ويمارس ذلك بمفرده أو بإنشاء جمعيات خيرية، كجمعية الأخلاق الأدبية، وجمعية منع المحرمات. وبكتابة رسائل إلى بعض الشخصيات يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر من غير أن يذكر اسمه.
من ملامح عظمة البنا:
للعظمة ميادين شتّى، فقد يكون العظيم عالماً أو فاتحاً أو مخترعاً أو مربياً روحياً أو زعيماً سياسياً.. ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال، ويغيرون مجرى التاريخ.
وحسن البنا هو أحد هؤلاء الخالدين، بنى دعوة منظمة، وأنشأ جيلا من المسلمين متميزاً بالتفاني والتضحية في سبيل الله تعالى.
تأسيس جماعة الإخوان المسلمين:
لقد أيقن حسن البنا أن الخير والسعادة لا يكونان إلا بالإسلام، وأن التخلص من الشقاء وفُشُوّ الجهل وسيطرة الإنكليز.. لا يكون إلا بالعودة إلى الإسلام، فوقف نفسه على غاية واحدة هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة وعملا. وظلّ يُفكر بالخطوات العملية، فيستغرق متأملا، أو يُحدِّث بعض أصحابه ويستثيرهم ويحثهم.
ويعبر عن ذلك الإمام البنا بقوله: وليس يعلم إلا الله كم من الليالي قضيناها ونحن نستعرض حال الأمة: نحلل الأدواء ونفكر في العلاج.. ويفيض بنا التأثر إلى حد البكاء..
ويُحدد البنا في رسائله أهم ملامح فكر الإخوان المسلمين، ويُوضح دعوتهم وفهمهم للإسلام في ثلاث نقاط، هي:
1- الشمول: (أي أن الإسلام يتناول شؤون الحياة كافة).
2- الربّـانية: (أي أن المرجع في الأحكام كلها هو رب العالمين).
3- الواقعية: (أي إن شريعة الإسلام تتناسب والواقع ، فهي تواجه الثابت من حياة البشر بتشريعات ثابتة، وتواجه المتطور بتشريعات مرنة.).
ويقول: إن فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية، فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنّيّة، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
بعض أعمال الإمام البنا في فلسطين:
عندما بدأت المعارك بين المسلمين واليهود في فلسطين عام 1947م دفع البنا بعض كتائبه إلى فلسطين حيث قامت ملاحم بطولة رائعة، لقّن فيها شباب الإخوان دروسا لا تُنسى لليهود.. في الوقت الذي كُشفت فيه خيانة بعض الحكام العرب.
أعلن الأستاذ البنا أن محاربة اليهود عن طريق الفدائيين المؤمنين أجدى ألف مرة من عمل الجيوش النظامية التي تقودها حكومات عميلة.
وطالب الإخوانُ حكومة النقراشي بفتح الطريق أمامهم إلى فلسطين فرفضت طلبهم، فرأى الإخوان أن يتسسللوا في الخفاء، فأحكمت الحكومة مع الإنكليز مراقبة الحدود لمنع الإخوان من ذلك، ومع ذلك، تسلل من الإخوان من استطاع وقاتل اليهود.
وقد ألف كامل الشريف كتابين عن جهاد الإخوان المسلمين في تلك الفترة أحدهما: (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين) والآخر: (المقاومة السرية في قناة السويس). وفي قراءة هذين الكتابين فائدة ومتعة كبيرتان.
استشـهاد الإمام حسن البنا:
أعلن النقراشي (رئيس وزراء مصر) في مساء الأربعاء: 8/12/1948م قراره بحلّ جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها. وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات، ولما همّ حسن البنا أن يركب سيارة وُضِع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين: لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا. لكن البنا أصرّ على الركوب في سيارة المعتقلين، فعادت السلطات وأطلقت سراحه، فصرح عندئذ بقوله: أنتم تقتلونني بعدم القبض عليّ. وقال أمام مجلس الدولة: إن قرار حلّ الإخوان صدر عن اجتماع عُقد في ثكنات الاستعمار. وأخذ يتردد على جمعيّة الشبان المسلمين، وحَدَّثهم مرّة قائلا لهم: لقد جاءني سيدنا عمرُ في الرؤيا يُنَبِّئُني بأعلى صوته: سَتُقْتَلُ يا حسن. ثم قُمْتُ وتهجدت إلى الفجر.
لكن الأمور كانت مرتّبة، فتتابعت الحوادث سريعاً، حيث كان الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية يُدبّر أمر اغتيال حسن البنا، واستخدم في ذلك عصابة من “الأمن المصريّ” ووضع تحت تصرفهم سيارته الرسمية. وتفصيل ذلك في مفكرة النيابة العمومية المصرية سنة 1952م .
في الساعة الثامنة من مساء السبت: 12/2/1949م كان البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين يرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ليرى صديقه البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها.
لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي الإمام البنا بعدها متماسك القوى كامل الوعي، وقد أَبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. فهذا كله يرجح بأن الإمام البنا لم يُقتَل برصاص المغتالين، بل بأحد أمرين:
الأوّل: أنه تُرك ينزف حتى أجهز عليه، ومُنع الطبيب من إسعافه.
الثّاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلا لوكيل الحاكمدار، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب على أمره. وقد ورد على لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز على حسن البنا.
لفظ البنا ـ رحمه الله ـ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف ( بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف من بدء محاولة الاغتيال)، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين. وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة. ولكن ثورة والد الشهيد جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.
قالوا في الإمام الشهيد حسن البنا:
1- قال الشهيد سيّد قطب رحمه الله، تحت عنوان: حسن البنا وعبقرية البناء:
“في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة قدرا مقدورا وحكمة مدبرة في كتاب مسطور. حسن البنا. إنها مصادفة أن يكون هذا لقبه. ولكن من يقول: إنها مصادفة؟! والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء بل عبقرية البناء؟!.. وإن استشهاده عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس وتقوية للجدران. وما كان ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطراتُ الدم الزكي المهراق.. إنّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مُتنا في سبيلها دَبَّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة”.
2- وقال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله:
إن كلّ من عرف حسن البنا عن كَثب لا عن كُتب، وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفَجَأَتْ مصرَ ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة. فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه، قيادة دينية أو سياسية أقوى وأعظم تأثيراً، أو أكثر انتاجا منها منذ قرون.
3- وقال الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى:
كان حسن البنا لله بكليته وروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه فجعله من سادات الشهداء الأبرار.
4- وقال عبد الحكيم عابدين رحمه الله أمين سرّ الإخوان في عهد البنا:
أقام الداعية المؤمن مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر الإسلامي على عشر دعائم:
1- الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة.
2- كلّ من قال: “لا إله إلا الله” يلتقي معك في ظلّ التوحيد.
3- اتهام النفس، وإحسان الظن بالمخالِف.
4- أدب الإنكار والاختصام، فإذا أنكر على إنسان أو خاصم، التزم الخلق الرفيع في ذلك.
5- ذمّ الجدال والمكابرة.
6- جواز تعدد الصواب.
7- التعاون في المتفق عليه، وتبادل العذر في المختلف فيه.
8- استحضار خطر العدو المشترك.
9- فتح آفاق العمل والانتاج.
10- الرثاء للضال المنحرف، لا الشماتة فيه ولا التشهير به.
5- وقال الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله:
“ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء مااقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتِهم، حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله؟”.
رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا رحمة حسنة واسعة، وجعله ممن رضي عنهم ورضوا عنه، وأسكنه وجمعه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجمعنا معهم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين آمين.