الإخوان المسلمون في سورية

الحَجُّ بَوْتَقَةٌ إيمانية تربوية (3)

رابعاً: السعي بين الصفا والمروة: تجديد للعهد مع الله عزّ وجلّ

ينطلق الحجاج المؤمنون إلى المسعى، فيحثّون السير سبعة أشواطٍ أيضاً، بين جبلي الصفا والمروة.. إذ يرتقون الصفا هاتفين بأعلى أصواتهم:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمدُ، يُحيي ويُميتُ، وهو على كل شيءٍ قدير.. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحده).
ثم يهتفون مثل ذلك أيضاً عندما يرتقون المروة..
وهكذا في كل شوط، سبع مراتٍ متتاليات، ذهاباً وإياباً.. يرتقون جبلاً، ويهبطون وادياً، ويسيرون في سهل.. يمشون تارةً، ويُسرعون ثانيةً (بين الميلين الأخضرين).. إلى أن ينتهوا من أشواطهم السبعة، داعين الله عزّ وجلّ ومُسبّحين ومُلَبـِّين.. فيجدّدون عهدهم مع الله جلّ وعلا ويؤكّدون عليه.. إنه عهد العمل والجهاد والدأب المستمر في سبيل الله سبحانه وحده.. وهذا الفعل نفهمه باالشكل الآتي:
إنه ما إن يبدأ المسلم المؤمن بالسعي لنصرة دينه، فيقطع مرحلةً من مراحل عمله ودأبه.. حتى يعودَ إليها من جديد، ليتفقّد ما أنجز.. فيسدّد ويصوِّبَ ويؤصِّل.. ويتأكّد من ثباته على الطريق المستقيم القويم، من غير انحرافٍ أو ابتعادٍ عن هدفه أو ثوابته.. يفعل ذلك مُلبّياً هاتفاً بوحدانية الله عزّ وجلّ، مُعاهداً على التزام أوامره واستمرار دأبه طوال حياته كلها.. مُبتدئاً من مرحلةٍ ثم مُنتقلاً إلى التي تليها بثباتٍ وعزمٍ متجدّد.. إلى أن يحققَ هدف الإسلام في الأرض، ويحققَ الحاكمية لله جلّ جلاله.. وهكذا،  يعاود ويصحّح ويصوِّب خُطاه باستمرار.. متفقّداً ما بنى، متأكّداً من حُسن ما صنع، مستمراً في طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، من غير كللٍ أو ملل، يقطع بهدوءٍ مرحلةً وراء مرحلة، وبثباتٍ ويقينٍ وإيمانٍ مُطلَقٍ بأنّ الخاتمةَ للمؤمنين، والعاقبةَ للمتّقين، والنصرَ للمجاهدين العاملين.. وفي ذلك تتم إزالة كل طواغيت الأرض (وهزم الأحزاب وحده)، وإقامة منهج الله عزّ وجلّ (نصر عبده)، وزوال كل جبارٍ في الأرض يستعبد الناس.. فيتحرّر البشر من تسلّط طواغيتهم، ويتوجّهون إلى الله عزّ وجلّ ربهم وإلههم متساوين، يسودهم حُكمُهُ العادل، ويسوسهم خيرهم ديناً وعزيمةً وكفاءةً وتقوى، وتتحقق كرامتهم من غير تفريقٍ بينهم.. وتستمر بهم حال العدل والمساواة والتكريم إلى آخر الحياة!..

خامساً: الوقوف بعرفة: تتويجٌ لإعلان العبودية لله عزّ وجلّ وحده

هناك.. في عرفات.. يُتمَّم البناء، وتكتمل حلقة التوجّه إلى خالق الـخَـلْق أجمعين.. التي بدأت من اللقاء بالصلاة جماعةً في مسجد الزقاق، ثم بصلاة الجمعة في مسجد الحي، ثم بصلاة العيد في مُصلى المدينة.. وهاهو ذا العالَم كله يلتقي الآن هنا في عرفات!.. حيث يتجلّى الله تبارك وتعالى على عباده، فيُباهي بهم ملائكته، فهؤلاء هم المؤمنون جاؤوه شُعْثاً غُبْراً يعاهدونه على الجهاد في سبيله، وفي سبيل تنفيذ أوامره في الأرض كلها، والاستمرار على حياة الدعوة والعمل والجهاد حتى الموت!..
هناك.. في عرفات.. يحتشد ملايين الناس: بلباسٍ واحد، وحالٍ واحدة، وتهليلٍ واحد، وتكبيرٍ واحد، وتلبيةٍ واحدة.. وذلك كله أمام ربٍ واحدٍ لا شريك له، يعاهدونه عهد الإيمان والإسلام على السير وفق منهجه ودستوره وشريعته التي وضعها لهم!..
هناك.. في عرفات.. تنتهي الحدود، وتُزالُ الفوارق بين البشر والأجناس، وتزول المراتب والدرجات الدنيوية، وتموت المسافات.. فلا تفاضل هنا إلا بالتقوى!..
يهتف المؤمنون كلهم بشعار الإسلام الخالد:
(لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلْك، لا شريكَ لك).
هو عهد دائمٌ، يتجدّد في كل خطوةٍ ومرحلة: سنحقق الهدف بإعلاء كلمة الله رب الأرباب كلهم، وسنُزيل كلَّ طاغوتٍ في الأرض، وسنُحرِّرُ أنفسنا والناسَ جميعاً من كل ظلم!..
ويزيد المؤمنون على ذلك بالتكبير:
(الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر).
ليؤكّدوا أنّ الله أكبرُ من كل كبير، وأكبرُ من كل ربٍ مزيَّف، وأكبرُ من كل جبارٍ في الأرض، وأكبرُ من كل طاغيةٍ يحكم بغير ما أنزل سبحانه وتعالى!..
في عرفات.. من المفترض أن يخطبَ في الناس خليفتهم وإمامهم أمير المؤمنين، أو مَن يوكله بذلك.. فيرحّب بهم في رحاب الله عزّ وجلّ، ويذكّرهم بعهد الله عليهم، بأن لا يُشرِكوا به أحداً، وأن لا يرضوا بأن يُشرِكَ أحدٌ به في الأرض كلها.. أما المستمعون إلى الخطبة، فهم المندوبون عن الشعوب في كل مكانٍ في العالَم!..
هناك.. تلهج القلوب بالدعاء والثناء على الله تبارك وتعالى، فتصل إليه الدعوات والرجاءات فوراً من غير وسيطٍ أو واسطة.. ويستمر الدعاء من بعد الزوال حتى غروب الشمس.. وخير ما دعا به رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، ذلك العهد على تحقيق هدف الإسلام في الأرض:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْكُ وله الحمدُ، يُحيِي ويُميتُ وهو على كل شيءٍ قدير).
في عرفات.. يتحقق الموقف العظيم، لأنه اللقاء الحي مع الله جلّ وعلا الذي يتجلّى على الناس.. فيقبَل منهم العهد، ويُباهي الملائكةَ بعباده المؤمنين الطائعين.. إنه اللقاء العظيم بين الله وعباده المؤمنين:
يُقدِّمون له العبادة، ويُقدِّم لهم الكرامة والحرية.. يعاهدونه على المضيّ قُدُماً في طريق الإسلام العظيم، فيباركهم ويبارك عهدهم.. يَعِدونه بالطاعة الكاملة، ويَعِدهم بالعِتْقِ من النار!..
ثم يزحف الناس عند الغروب إلى (مزدلفة) أو (المشعر الحرام).. ثم إلى (مِنى) لرجم الشيطان الرجيم.. يزحفون متزاحمين بالأكتاف الليّنة، والقلوب الصافية، والأرواح الحانية، والعزم الشديد، والإصرار العنيد على المضي في طريق الله عزّ وجلّ.

د. محمد بسام يوسف