د. خالد رُوشه
قدم المنهج التربوي الإسلامي نماذج مختلفة للعملية التربوية ذات الخطوات المتتابعة المتصلة التي تهدف إلى التقويم والعلاج كما تهدف إلى التقدم والترقي واستعمل المنهج الإسلامي وسائل مختلفة لتطبيق هذه النماذج مع الحالات المتباينة ذات الظروف المختلفة، وقد نجحت فرضياته في جميع الأحيان بلا استثناء، الأمر الذي يجعل محاوره المنهجية يمكن أن تعتبر فروضاً ثبت صحتها ومن ثم تجتمع في نظرية صحيحة ثابتة هي النظرية التربوية الإسلامية.
ومن ضمن تلك الأساليب التقويمية والعلاجية هو نموذج استخدام الرفق كوسيلة من وسائل التعامل مع الحالة التربوية.
فالإسلام لم يقدم الرفق فقط كخُلق إنساني إيماني متميز فحسب، بل قدمه كطريقة تناول في الحياة بأكملها، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ماكان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع عن شيء إلا شآنه”، فهو يعمم استخدام الرفق وطرائق الترفق في جميع الشؤون أياً كانت ويبدي أنه زينة في كل حال، كما يبدي أن تركه واللجوء إلى غيره شينة ومنقصة وعوار، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ” كان يحب الرفق في الأمر كله ”
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم تجربة تربوية ناجحة يحكيها لنا تابعه الصحابي الجليل أنس بن مالك فيقول: “لقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي عن شىء فعلته لم فعلت ذلك ولا عن شىء لم أفعله لم لم تفعل ذلك، ولم يعبس في وجهي قط”.. يبقى أن تعلم أن أنسا هذا رضي الله عنه قد صار شخصية من أهم الشخصيات الإسلامية على مر العصور سواء في المجال العلمي أو النهضوي الحضاري.
وعبر استقصاء طريقة الإسلام في استخدام الرفق في المواقف التربوية يمكننا أن نستل أسلوباً عملياً تربوياً، ويتركز العمل بهذا الأسلوب في مجال التعامل مع المشكلات النفسية والسلوكية سواء بين الشخصيات العادية التي مرت ببعض خبرات سلبية، أو بين أصحاب المشكلات السلوكية كالأبناء المتصفين بالعنف في سلوكهم مع الغير والمتعرضين لحوادث العنف السابقة وأمراض النطق الناتجة عن الارتباك النفسي وأمراض الانطواء والخجل المبالغ فيه، والخارجين من صدمات انفعالية أو من تعرضوا لمصائب حياتية، بل تتعدى إلى علاج المشكلات الكامنة مثل: الكذب عند الأطفال والأنانية وحب الامتلاك للأشياء والعجب وحب التميز وغيره..
طريقة منهجية: بالرغم من بعض الاختلافات الرئيسية بين التعليم باستخدام الرفق وأساليب العلاج السلوكي الأخرى، فإن هناك نقاط تماثل تجعل أوجه الشبه بينهما أكثر من أوجه الاختلاف.
فأسلوب التعليم بالرفق ـ مثله في ذلك مثل العلاج السلوكي ـ يبدأ بتحديد المشكلة تحديداً نوعياً ويرسم أهدافاً مسبقة للعلاج، وعلى الرغم من حاجتنا كتربويين لاستخدام العلاج السلوكي والتفاعلي في المواقف المختلفة إلا أننا نرشح التعليم بالرفق كوسيلة هامة ومؤثرة ومكملة لخطوات التعليم والعلاج السلوكي.
لكن التعليم بالرفق يختلف عن المناهج العلاجية السلوكية التقليدية في جوانب منها:
1ـ أنه يرفض استخدام العقاب تماماً ويتجنب استخدام الأساليب التنفيرية في تعديل السلوك بما في ذلك كل أشكال العقاب كتكاليف الاستجابة والإبعاد المؤقت، والنظرية الإسلامية التربوية تثبت العقاب وتقبله لكن تضعه في أسلوب علاجي مختلف قد يلجأ إليه في حالات خاصة.
2ـ يرفض عملية الضبط والتحكم كهدف من الأهداف العلاجية. ويبشر بأن أهداف العلاج يجب أن تكون متجهة لتكوين رابطة وجدانية بين المريض والمربي.
3ـ يتبنى مفهوم المشاركة والاقناع بكل سلوك يقوم به الطفل ولا يجبره على شىء يفعله بل يترك له حرية الاختيار، ويكون ذلك بعد التوجيه العقلي والبيان الكامل للصواب والخطأ بعبارة أخرى فعملية العلاج في ضوء هذا المنهج تتجه إلى تكوين صلات وجدانية قوية بالمريض، وتتبنى وجهة نظر تربوية نحو مشكلاته، وتركز على التبادل والأخذ والعطاء بين الطفل والمعالج خلال عملية العلاج.
4ـ يراعي العلاج الملطف الشعورية ويجعل لها موقعاً قوياً في أي خطة علاجية بما في ذلك التركيز على الحب والتقبل والتسامح والدفء وغيره. الفكرة الأساسية تقوم هذه الطريقة العلاجية على أساس اعتبار أن كل التفاعلات الإنسانية ـ ناجحة أو فاشلة ـ تعتمد أساساً على اتجاهاتنا ومعتقداتنا وأحكامنا الأخلاقية المتبادلة وجواذبنا الشعورية والوجدانية ومن ثم، فإن كنا نعتقد أن الطفل المشاغب (مثلاً) هو شخص قد أفسدته التربية والتدليل، فإن تفاعلاتنا مع هذا الطفل ستتجه في الغالب الأعم إلى الحزم والعقاب وإملاء الأوامر، وقد يسهم أسلوبنا هذا بدوره في تكوين معتقدات وأحكام لديه يرانا بمقتضاها أننا لا نفهمه وأننا نتسلط عليه ولا نصغي لمشاعره، ولهذا فإن التفاعل الصحي ستبتره منذ البداية الأحكام والآراء المتبادلة للأشخاص موضوع هذا التفاعل.
وهذه المجموعة من القيم الشخصية هي الوضع القيمي أو الإطار المرجعي الشخصي الذي نسترشد به خلال عملية التفاعل، والذي من شأنه أن يحكم نشاطاتنا اليومية. والوضع القيمي شئ غير محدد بدقة.
فهو كإطار مرجعي يتغير دوماً بحسب ما نواجه من الشخص الذي نتفاعل معه. ومن ثم فهو يتعدل ويتغير عندما نواجه شخصاً عدوانياً أو انسحابياً. ومن المهم الانتباه إلى الجهاز القيمي العاطفي لكل شخص خلال عملية التفاعل.
هذا الانتباه كفيل بألا يجعل هدفنا هو التركيز على تعديل جانب محدد من السلوك الشاذ، أو القفز إلى استخدام الأساليب الفنية الجاهزة.
إن معرفتنا بهذا للطفل صاحب المشكلة تساعدنا بادئ ذي بدء على إقامة إطار عمل يمكننا من خلاله تقدير نتائج التفاعل، ومدى استناده إلى المبدأ الرئيسي من مبادئ العلاج المتبادل بدلاً من التركيز على الانصياع والطاعة والخضوع.
* الهدف الرئيسي من التعليم بالرفق:
إن الهدف الرئيسي من العلاج الملطف هو تكوين رابطة وجدانية قائمة على مساندة صاحب المشكلة ومن ثم يهدف إلى المعالج هنا إلى تطوير علاقة إيجابية بالطفل قبل الدخول في خطة العلاج.
ونتيجة للرابطة الوجدانية التي تتكون تدريجياً مع الطفل، يتعلم الطفل ثلاثة أشياء هي:
1ـ إن وجود المربي يرتبط لدى الطفل بالأمان والطمأنينة.
2ـ إن كلماتنا وإيماءاتنا (بما فيها اللمس، الابتسام، والعناق) تعني الإثابة والمكافأة في ذاتها، وليس التحكم والرغبة في الضبط.
3ـ إن مكافأة الطفل تأتي من إسهامه (وليس من مجرد خضوعه).
وذلك سيجعل من الميسور علينا تحقيق تغيرات إيجابية في تفاعلاتنا مع الطفل.
لا أن تكون خططنا قائمة على مجرد رد الفعل ودرء الخطر.
فالمربي الذي استطاع أن يبني علاقة دافئة، سيكون بإمكانه التنبؤ بالسلوك؛ قبل حدوثه، وسيكون بإمكانه الاستفادة من هذه الرابطة في أكثر المواقف خطراً وحرجاً. لهذا نجد أن العلاج الرفيق غالباً ما يحقق نجاحاً كبيراً في مثل هذه الحالات بالذات.
* نصائح المتخصصين للمربين في هذا المجال:
1ـ اجعل وجودك مدعماً للطفل، وبعبارة أخرى، يحتاج الوالدان والمشرفون على تربية الطفل إلى أن يجعلوا حضورهم أو وجودهم مع الطفل مرتبطاً بالدفء والرعاية والتقبل والاهتمام، ولا يشترط هنا الثواب والهدية، فالغثابة ليست من ضمن وسائل هذه الطريقة العلاجية.. بل لا تكاد تحتاج إليها.
2ـ شجع الطفل على تبادل السلوك التحبيبي والوجداني، كالمصافحة الطويلة والابتسامة في الوجه مع النظرة في العين، والتسريب الوجداني لما يمكن أن يكون قد أغضبه أو التفريغ النفسي لمواقف سابقة قد مرت به أو غيره.
وكل هذا هنا مرتبط بالنجاح في العلاقة الإيجابية والاتصال، وليس كمجرد استجابة لسلوك بصفة المعالج السلوكي بأنه سلوك جيد أو غير مرضي.
3ـ أن تكون تفاعلاتنا مع الطفل طبيعية وغير مفتعلة، وناشئة عن قناعة وجدانية من الوالدين والمربين.
4ـ عندما يعزف الطفل عن الإسهام والتفاعل لأي سبب، يجب على المربين أن يخلقوا الظروف الملائمة التي تدفع الطفل إلى السلوك المطلوب ولا يدفعونه إليه دفعاً باستخدام الأوامر والنواهي.