الإخوان المسلمون في سورية

الطفل والتدرج في المسؤولية

بعض الإجابات تأخذ شكلاً من السطحية، تؤدي بدورها إلى أشكال من التناقض.
فمن التسطيح الفج أن نقول: إن الطفل لا يفهم، لأنه لم ينضج بعد، فلذلك لا ينبغي أن يُسأل عن تصرفاته!
فأول الإشكالات على هذا الكلام هو الاتفاق على تعريف الطفل: فهل المقصود بهذا الكلام الطفل الرضيع؟ أم الطفل الذي بلغ السادسة من عمره، أو العاشرة أو السابعة عشرة؟!!
وهل المقصود المسؤولية القانونية الكاملة أم يمكن تجزئة المسؤولية وجعلها متدرجة؟!
إن تجارب علماء النفس، بل تجارب عامة الناس، تثبت أن الطفل منذ شهور عمره الأولى، بل منذ أيامه الأولى، يملك درجة من الفهم والوعي، وهذه الدرجة تنمو وترتقي، وقد تمر بتعثرات وانتكاسات أو انتعاشات وطفرات، طوال عمره.
فمما لا جدال فيه أن ابن العاشرة يفهم أشياء كثيرة، سواء على مستوى التعامل مع أفراد أسرته، أو على مستوى التعلم المدرسي، أو على مستوى القيام بأنشطة رياضية واجتماعية… وأن ابن العشرين -مثلاً- يكون أكثر فهماً ونضجاً… ويكون أكثر مسؤولية عن سلوكه وتصرفاته، ففي أي مرحلة يمكن أن نَعُدَّ الإنسان كامل المسؤولية، أي أنه قد بلغ درجة من النضج العقلي والنفسي تجعله قادراً على تحمل المسؤولية عن تصرفاته بشكل تام .
وهذا الأمر لا يمكن أن يترك لتقدير الفرد نفسه، أو تقدير ذويه ومعارفه، لأن القضية إذا تُركت من غير ضبط أدّتْ إلى اضطراب كبير، فحين يكون تحمُّل المسؤولية مقترناً بالمزايا فسوف يزعم لنفسه، أو يزعم له ذووه، أنه ناضج مكتمل الشخصية، وهو أهل لإسناد المسؤولية إليه… وحين يكون تحمُّلها مقترناً بعقوبة على مخالفة صدرت عنه فسوف يقول هؤلاء: إنه صغير ولا يجوز أن تحاسبوه محاسبة الكبار!!
ومعظم الأنظمة الرسمية القائمة اليوم تجعل مرحلة النضج المرتبطة بالمسؤولية القانونية التامة هي سن الثامنة عشرة، ومع ذلك فقد تجعل استحقاقه لبعض المزايا (وتحمله لمسؤوليتها) مرتبطاً بسنّ أعلى، كأن يكون حصوله على رخصة قيادة السيارة بعد بلوغه الحادية والعشرين، وأن ترشيحه لمنصب (في مؤسسة حكومية أو حزبية) بعد بلوغه الأربعين مثلاً، وكأن المشرعين رأوا أن سن الثامنة عشرة هي السن القانونية المناسبة لتحمل المسؤولية بشكل عام، وجعلوا سنّاً أخرى لمسؤوليات خاصة.
أما الإسلام دين الله فقد جعل تلك السن هي سن البلوغ (أو سن الخامسة عشرة). والله تعالى الذي خلق الإنسان هو الأعلم بالسنّ المناسبة لتحمل المسؤولية ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))؟! سورة الملك : 14
ومع ذلك ففي التشريع الإسلامي اشتراطات أخرى، غير السنّ، لاستحقاق بعض المزايا المرتبطة بالمسؤولية. وأقرب مثال على ذلك حق اليتيم في التصرف بالأموال التي تركها له أبوه، إذ لا يكفي هنا الوصول إلى سن البلوغ، بل يجب كذلك تحقق الرشد المالي. قال تعالى: ((وابتلوا اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالهم)) النساء: الآية 6.
وقد سجل التاريخ الإسلامي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصور تالية، أن أفراداً متميزين قادوا معارك وانتصروا فيها وهم دون الثامنة عشرة، ويكفي أن نذكر الصحابي زيد بن حارثة رضي الله عنه، ونذكر القاسم بن محمد الثقفي فاتح بلاد السند.
ويمكن أن نسجل هنا بعض النقاط التي تُعَدُّ معالم في تربية الطفل، وتدرجه في تحمل المسؤولية:
1. وجّهَنا الإسلام إلى العناية بتربية الطفل في مثل قوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة)) التحريم الآية 6 . وفي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه). رواه الإمام مسلم وغيره. وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر. وفرّقوا بينهم في المضاجع) رواه أبو داود والترمذي -وقال حديث حسن- والحاكم.
2. بل إن من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤَذَّنَ في أُذُن المولود في الساعات الأولى من حياته . ونحن -إذا كنا لا ندري ما الذي يدركه الطفل من هذا الأذان- لا أقلّ من أن ندرك أنها إشارة لنا -نحن الكبار- أن لا نُهمل تربية الصغير بحجة أنه صغير لا يفهم !! بل نبدأ بتربيته منذ أيام حياته الأولى.
3. من مظاهر فهم الطفل منذ الشهور الأولى من عمره – أنه يفهم الابتسامة، ويميز أمّه وأباه ومعارفه، وينجذب إلى بعضهم أكثر من انجذابه إلى الآخرين… ويعلم أن بكاءه وصياحه يجلب له اهتمام ذويه…
4. والإسلام الذي شرع البلوغ سنّاً للتكليف، وجّه إلى أمر الطفل بالصلاة وهو ابن سبع سنين، بل أمر بضربه عليها وهو ابن عشر… وفي هذا أن التعويد على الطاعة، بل الإلزام بها، يمكن أن يكون قبل البلوغ، وأن الضرب ليس هو العلاج الأوّل بل بعد فاصل ثلاث سنين كاملة بعد الأمر، المصحوب عادة، بالقدوة الحسنة والترغيب والتحبيب والإقناع..
5. الوصول إلى سن البلوغ يعني، فيما يعني، التوازن بين الحقوق والواجبات، ويعني إذاً الشعور بالمسؤولية. فالطفل في السنوات الأولى من عمره يستحق كل عطف ورعاية مادية ومعنوية… ولا يكاد يطالَب بأي واجب، لكنه كلما تقدم سنةً نحو البلوغ فقد خطا خطوة باتجاه تحمّل المسؤولية والقيام بالواجبات. فمن واجباته: المشاركة في خدمات المنزل، ورعاية إخوانه الأصغر منه، ومراعاة الآداب الاجتماعية، والجدّ في واجباته المدرسية.
أما بعد البلوغ فقد أصبح مسؤولاً عن الإنفاق على نفسه، والقيام بحصته من الخدمات المنزلية والواجبات الاجتماعية… فضلاً عن مطالبته التامة بالقيام بالواجبات الشرعية واجتناب المنهيات.
وحين يلتزم الأبوان والأهل عامة بتحمل كل ذلك، أو بعضه، عن ابنهم البالغ، فهذا تبرع منهم.
ومن الانحراف في التفكير والسلوك أن يرى هذا البالغ أن على أهله تقديم الدعم المالي والمعنوي إليه… مع إعفاء نفسه من مقتضيات البر بالوالدين، والتعاطف مع الإخوة والأخوات، والتحلل من المشاركة في الخدمات…
6. التوازن بين الدلال والقسوة، وبين المكافأة والعقوبة، من الأمور المهمة في تربية الطفل.
الدلال يُشعر الطفل بقيمته، ويجعله معتزاً بنفسه… لكن المبالغة في الدلال تؤدي إلى الشعور بالغرور والتعالي على الآخرين والاعتماد عليهم في إنجاز الأمور بدل الاعتماد على النفس.
والقسوة في التعامل تحجز الطفل عن الشطط والانحراف، وتجعله يعتمد على نفسه ويستنفر طاقاته … لكن المبالغة في ذلك تجعله يحقد على المجتمع، ويحسّ بضآلة قيمته في أعين الآخرين، بل قد تضعف ثقته بقيمته في نظر نفسه.
والاعتدال بين هذا وذاك هو المطلوب.
ومن الخطأ في اختلال هذا الاعتدال، أن يكون بعض الأهل يدلّل، وبعضهم يقسو… إن هذا سيؤدي إلى اضطراب صورة الطفل في ذهنه عن مكانته وقيمته، كما سيؤدي إلى أن يصنِّف أفرادَ المحيط حوله إلى محبوبين ومبغَضين…
ويمكن القول بمثل ذلك في مسألة الثواب والعقاب، فلا بد أن يلقى الطفل تشجيعاً على الخير والإنجاز والتعاون… وزجراً عن التقصير والخطأ والعدوان… لكنّ للثواب والعقاب قواعد ضابطة، تجعل النتيجة إيجابية في اتجاه تعزيز الصواب وإلغاء الخطأ.
ومن التوازن المطلوب في تربية الطفل كذلك شعوره بالعدل في المعاملة بينه وبين إخوته، فلا يحسّ بتميز له، أو عليه. والطفل في العادة – حسّاس تجاه هذه المسألة.
7. وضوح معايير الصواب والخطأ، والمقبول من السلوك والمرفوض. إذ من الخطر في تربية الطفل أن تضطرب المعايير أمامه، فيعاقَبُ على ارتكاب فعل، وهو يرى أباه يرتكب مثل هذا الفعل، أو يُمنع من بعض التصرفات من غير أن يعرف سبب المنع!
وقد يصعب على الأهل في سني العمر الأولى أن يشرحوا للطفل أسباب تدليلهم وإهمالهم، وأسباب مكافأتهم وعقوبتهم، وأسبابَ قبول أنواع من السلوك، ورفض أنواع أخرى… لكن الحكمة في تطبيق ذلك، بما يعني العدل والتناسق والتدرج… ثم الشرح الشفهي المناسب لكل مرحلة عمرية… وقبل ذلك كله : القدوة الحسنة… كل ذلك يجعل الأمر مقبولاً وسليماً وفعالاً.
8. إكساب الطفل عادة القراءة، ولا نظن أحداً يجادل في أهمية ذلك، لما فيه من توسيع أفقه وثقافته وتزويده بالمعارف والقيم، وملء وقته بما يفيد… لكن الجدل قد يدور حول أنواع ما يقرؤه، ومناسبة ذلك لعمره، وكيفية تحبيب القراءة إليه، وهل يكون ذلك عبر كتب أم مجلات، أم عبر الحاسوب… ولا يمكن ههنا توفية الموضوع حقه، إنما نكتفي بالإشارة إلى القدوة الحسنة في ذلك، والتدرج في اختيار ما يقرؤه الطفل.

محمد عادل فارس