في ذكرى وفاته في شوال 1417هـ
الحلقة الأولى
سبق أن تحدّثتُ عن بعض علماء الشام الأفذاذ، من القدامى والمحدثين: عن الإمام الذهبي، والشيخ محمد الحامد، والشيخ عبد العزيز عيون السود، والشيخ محمد المبارك، رحمهم الله جميعاً، ورحمنا معهم.
لكن حديثي عن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة له معنى آخر، فقد كان لي شرف التلمذة الطويلة عليه، درّسني في ثانوية المأمون بحلب، عامين دراسيين كاملين، وجزءاً من عام ثالث، وكنتُ لا أكتفي بما أتلقّاه عنه على مقاعد الدرس، كما هو شأن التلاميذ الآخرين، بل أتابعه في أثناء الفرص والاستراحات وغيرها. على أن استفادتي الكبيرة منه لم تكن في المدرسة، بل كانت في المسجد. فقد كنتُ أواظب على استماع خطبة الجمعة منه في جامع الثانوية الشرعية بحلب منذ مطلع عام 1961م، وكنت آنذاك طالباً في الصف الحادي عشر، وكانت خطبته تتسم بالفصاحة والرصانة والتوازن وحسن التوجيه. وفي بعض المرات كانت الحكمة تقتضي أن تكون الخطبة حماسية، في أعلى درجات الحماسة، فكان يهاجم فيها حزب البعث الحاكم، ويذكر من تفاهات هذا الحزب وسفاهاته قول شاعره:
آمنتُ بالبعث رباً لستُ أشكره وبالعروبة ديناً ما له ثانِ
ولم يكن يحُول بيني وبين الصلاة عنده حرٌّ أو برد، أو وجود امتحانات مدرسية أو غير ذلك، بل كنت أحضر مبكراً فأستمع الخطبة وأصلي الجمعة، ثم أجلس لاستماع الدرس الماتع الذي يقدمه بعد الصلاة، وكان يسميه: “جلسة التفقه في الدين” ويجيب فيه على أسئلة الحاضرين التي يقدّمونها مكتوبة، وتكون إجاباته باقة رائعة من الأحكام الشرعية وأدلتها من الكتاب والسنّة، ثم من أقوال السلف وأئمة الفقه، إلى جانب المواعظ الرقيقة، وأبيات الشعر المؤثّرة، واللطائف اللغوية، والنكت الذكية…
وكان أكثر السائلين حظاً مَن كان الشيخُ، رحمه الله، يبدأ بالإجابة على سؤاله. فقد كان الشيخ يرتّب الأوراق التي تقدّم بها الحاضرون، فيقدّم السؤال الأهم فالأهم. وربما استغرقت معه الإجابة على السؤال الأول عشرين دقيقة أو أكثر، قبل أن ينتقل إلى السؤال الثاني فالثالث. وفي غالب الأحيان تبقى بين يديه أوراق كثيرة لم يتسع الوقت للإجابة عليها، فمن كان مستعجلاً في الحصول على جواب رافقَ الشيخَ في طريقه إلى الخروج من المسجد ليسأله.
وفي درس الجمعة هذا، أو جلسة التفقه في الدين، حصلتُ على ثروة علمية، ما زلتُ أنهل منها، في الفقه والسيرة والتفسير والحديث والأصول واللغة والأدب… وحصلتُ معها على حب العلم والتعلم والقراءة. وهذا ما جعلني وأصدقائي الذين يشاركونني حضور هذا الدرس، أن نتوافق على دراسة الفقه من كتبه المشهورة، ففي عصر اليوم الأخير من امتحان الشهادة الثانوية، التقينا في الجامع الكبير، وأحضرَ أحدنا كتاب “حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح” وبدأنا نقرأ في صفحاته الأولى، فتمرّ عبارات نفهمها بسهولة ويسر، وعبارات نفهمها نصف فهم، وعبارات تُستغلق علينا. حتى هيّأ الله لنا أن ندرس مراقي الفلاح على الشيخ محمد السلقيني رحمه الله، فتعلّمنا على يديه حلّ العبارة الفقهية وفهم لغة الفقهاء، وهذا ما مكنني، فيما بعد، أن أطّلع بنفسي على كتب فقهية، وفي علوم أخرى كذلك.
وبين الفينة والأخرى كان يحضر إلى حلب بعض رجال العلم والفكر والدعوة. وأهل الفضل يقدّرون أهل الفضل، فكانوا يزورون الشيخ رحمه الله، ويصلّون الجمعة عنده. وبعد الصلاة كان الشيخ يقدّمهم لجمهور المصلين، ويطلب منهم إلقاء محاضرة، عوضاً عن درسه (جلسة التفقه). وممن أذكرهم، وقد استمعتُ إلى محاضراتهم النافعة الماتعة، علّامة العراق المرحوم أمجد الزهاوي، والمفكّر الجزائري الكبير مالك بن نبي، بل كان بعض هؤلاء الأفاضل من جماعة الدعوة والتبليغ.
وبين الفينة والأخرى كان يحضر إلى حلب بعض رجال العلم والفكر والدعوة. وأهل الفضل يقدّرون أهل الفضل، فكانوا يزورون الشيخ رحمه الله، ويصلّون الجمعة عنده. وبعد الصلاة كان الشيخ يقدّمهم لجمهور المصلين، ويطلب منهم إلقاء محاضرة، عوضاً عن درسه (جلسة التفقه). وممن أذكرهم، وقد استمعتُ إلى محاضراتهم النافعة الماتعة، علّامة العراق المرحوم أمجد الزهاوي، والمفكّر الجزائري الكبير مالك بن نبي، بل كان بعض هؤلاء الأفاضل من جماعة الدعوة والتبليغ.
وأذكر كذلك أن الأستاذ عصام العطار زار حلب مرةً وألقى محاضرة مساء الخميس في الجامع الكبير، وكان عدد الحضور هائلاً. وبعد المحاضرة تجمّعوا في ساحة المسجد يهتفون هتافاتٍ إسلاميةً حماسية، ويأبون أن ينصرفوا، على الرغم من محاولات بعض الشيوخ صرفهم، لكن شيخنا رحمه الله، حين طلب منهم الانصراف، ما أسرعَ ما استجابوا!.
وفي يوم الجمعة التالي قدّم الشيخ رحمه الله، الضيف عصاماً فألقى خطبة الجمعة في مسجده، مسجد الثانوية الشرعية.
فهذه بعض ذكرياتي عن جلسة التفقه في الدين.
* * *
ولقد كنتُ، وعدد من رفقائي وزملائي، نحسّ بفائدة عظيمة من تلك الدروس، لكننا لا نرتوي منها، بل نشعر بشوق كبير إلى المزيد. وقد تشاور بعض الشباب في ذلك، وكنت من بينهم، فانتدبوا اثنين منا، كنتُ أحدهما، وأظن أن الآخر كان الصديق الصدوق فاروق أبو طوق، الذي أصبح فيما بعد، صهراً للشيخ.
ذهبنا، نحن الاثنين، إلى بيت الشيخ ورجوناه أن يعقد درساً أسبوعياً آخر ليروي ظمأنا. وكان أن استجاب رحمه الله، فكان يلقي الدرس مساء كل خميس، شتاءً بعد العشاء، وصيفاً بعد المغرب، في جامع سيف الدولة القريب من بيته في الشارع المسمى طلعة سيف الدولة. وفي كل أسبوع يختار موضوعاً، قد يدور حول تفسير آية أو آيات من كتاب الله تعالى، أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مناسبة من المناسبات. وعلى سبيل المثال، كان بعض الفتية، من طلاب الصف الحادي عشر يحضّرون أنفسهم للاشتراك في معسكر الفتوّة الذي كان مفروضاً على جميع طلاب تلك المرحلة… فطلبوا من الشيخ أن يخصص لهم درساً عن نصائح يقدّمها لهم حتى يُفيدوا من حضور المعسكر، في دينهم وأخلاقهم وأبدانهم… ولا يتلوّثوا بما يمكن أن يلقَوه من أخطاء وأخطار. وبالفعل قدّم الشيخ رحمه الله، باقة من النصائح والتوجيهات الرائعة، حتى تمنيتُ أني سمعتها منه، قبل سنوات، حين حضرتُ معسكر الفتوّة!.
* * *
وبعد حين سأله بعض أصدقائي من طلبة كلية الهندسة التي كنّا طلاباً فيها آنذاك، أن يقدّم درساً أسبوعياً ثالثاً، فاستجاب لهم كذلك، وكان درساً في الفقه، مساء كل اثنين، في جامع زكي باشا في حي الإسماعيلية، يقرأ فيه ويشرح، من الكتاب الذي كان يحققه ويخرجه آنذاك، وهو كتاب “فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية”.
وكنتُ أحظى بمتابعة خطبه جميعاً، بل أرافقه بعد كل درس لأسأله عما يعتمل في نفسي من إشكالات واستفسارات، ولأستمع إلى إجاباته كذلك على أسئلة الزملاء والأصدقاء. وبهذا كله يسّر الله لي فرصاً رائعة لأنهل من علم الشيخ. ولكن الشيخ – رحمه الله – كان كالبحر الزاخر، وكان ما أخذته منه كرشْفة من ذلك البحر.
وكان، رحمه الله، لا يألو يوجّهنا ويعلمنا وينصحنا، وكان يزرع في نفوسنا الرغبة القوية في تلقّي العلم ومجالسة العلماء وحبهم واحترامهم وتوقيرهم.
وحين يحدُث أن أحد المستمعين يقول للشيخ: إن فلاناً من المشايخ يقول كذا وكذا، خلافاً لما قلت، كان الشيخ رحمه الله يستوعب الأمر بحكمة ويقول: “لا ينبغي أن تذكر اسم شيخ أمام مَن يخالفه، بل يكفي أن تقول: هناك من يقول كذا وكذا. نعم لكل شيخ وجهة نظره، ومصادر علمه. ونحن نحترم آراء الشيوخ جميعاً، وليس منا معصوم”.
وحين كنتُ أسأله عن رأيه في أن أحضر دروس فلان من الشيوخ كان يذكر لي الجانب المضيئ الذي ينبغي أن أُفيده من ذلك، من غير أن يطعن أو يغمز في ذلك الشيخ.
وحدث أنني – في مراحل لاحقة – قابلتُ الشيخ محمد الحامد رحمه الله، في حماة، وقلتُ: عندي بعض أسئلة أحب أن تفيدني في الإجابة عليها، فقال لي: عندكم في حلب الشيخ عبد الفتاح ثم تسألني؟!.