الإخوان المسلمون في سورية

العلامة الفقيه المحدّث الأستاذ عبد الفتاّح أبو غدّة رحمه الله تعالى في ذكرى وفاته في شوال 1417هـ

الحلقة الثالثة

شخصيته

كان الشيخ رحمه الله يمثّل الشخصية القوية المتميزة للعالم المسلم المجاهد، فهو واسع العلم، رحْب الاطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، ويضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركاً كل الأبعاد التي تحيط بهم. وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حُلْوُ الحديث، رشيق العبارة، قريب إلى قلوب جلسائه، يأسِرُهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبُعْدِ غَوره، مع حضور بديهة، وحسن جواب. حتى إن المُعاشر له لينهل من أدبه تماماً كما ينهل من علمه. وكان من اهتمامه بآداب المجالسة والتعامل والمعاشرة أن انتشر في ثنايا كتبه وتعليقاته تأكيد فنون هذه الآداب وأخبار المتأدبين (انظر مثلاً الكتيب الصغير الذي ألفه بعنوان: “من أدب الإسلام”، وتعليقاتِهِ على رسالة المسترشدين، وعلى قصيدة عنوان الحِكَم لأبي الفتح البُستي).
وأما أدبه هو مع شيوخه فكان مثالاً للخلق والتواضع. فقد قبّل يد الشيخ مصطفى الزرقا مراراً، لأنه تتلمذ على والده وعليه، وعندما صدرت الطبعة الأولى لكتاب رسالة المسترشدين، الذي شرحه وعلّق عليه، قدّم نسخة منه إلى الشيخ محمد نجيب خيّاطة هديّة وقبّل يده (وقد شهدتُ ذلك بنفسي)، وذلك أن الشيخ نجيب أكبر منه سنّاً، وقد تتلمذ عليه بعض الشيء. وكان يزور الشيخ عبد الكريم المدرّس في بغداد ويقبّل يده ويقدّم له الهدايا من الكتب النفيسة…
فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه القلوب، وتتعلق به النفوس وأن يكون موضع الحب والتقدير والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك كان بعيداً عن الغلو والانفعال، يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته، ولا أدل على ذلك، من أن يستشهد الإنسان بموقف الشيخ رحمه الله تعالى، من العالم الجليل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما أشرتُ سابقاً، فقد كان الشيخ يدرّس ويعلم في بيئةٍ فيها كثيرٌ من التحفظ تجاه الإمام ابن تيمية، وإذا زدنا على ذلك تتلمُذَ الشيخ على الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، وكان هو الآخر، شديد الازورار عن الإمام ابن تيمية، فإن كل هذا لم يمنع الشيخ عبد الفتاح من أن ينصف شيخ الإسلام، وأن يذكره في مجالس علمه في مدينة حلب في الخمسينيات والستينيات، بما هو أهل له، وأن يغرس في نفوس أجيال الشباب من الدعاة والعاملين حبه واحترامه، على أنه العالم المجاهد، وأن يفعل الشيء نفسه لتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، غير عابئ بما يجره ذلك من مخالفة من الوسط العلمي، أو مخالفة شيخ له، يحبه ويجلّه ويرى في الإمام ابن تيمية ما لا يراه.
***

نشاطه الدعوي العام

ذكرنا أن الشيخ قد التقى في مصر الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى في الأربعينيات، وأصبح بذلك اللقاء من جماعة الإخوان المسلمين، تلك الجماعة التي أخذت على نفسها حمل راية الإسلام، والعمل على إعادة دولته وبناء حضارته، في العصر الحديث، وبعد أن عاد الشيخ إلى بلده سورية، حمل على عاتقه عبء حمل الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي العام في المساجد والمدارس والمجالس العامة، ونشاطه الدعوي الخاص، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وتعلَّقَ الإخوان بدورهم بالشيخ رحمه الله، ووثقوا به، لورعه وتقواه وعلمه ورجاحة عقله وحكمته، فكان لهم مرشداً وسنداً وموئلاً.
وكان الشيخ رحمه الله تعالى خلال إقامته في سورية مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه نال شرف الاغتراف من بحر فضيلته.
وعندما اشتدت وطأة الطغيان على سورية في أواسط الستينيات، سعى الشيخ إلى تشكيل ما يُشبه الجبهة الإسلامية، فتحرك حركة إيجابية تجاه علماء مدينة حلب، فاجتمعوا معه في لقاءات موسعة كانت تضم خلفها جماهير المسلمين في المدينة، وتُظهر قوتهم، وتُبرز وحدتهم، إلا أن هذا السعي لم يؤتِ ثماره المرجوّة، لأسباب تتعلق بطبيعة الوعي الإسلامي، لحجم المأساة التي كان الشيخ يحاول أن يتصدى لها.
وفي مسجد (الخسروية) حيث كان يجتمع أسبوعياً آلاف المصلين، كان الشيخ يطرح على منبره، قضايا الإسلام والمسلمين المعاصرة، متصدياً للدكتاتورية والاستبداد، ولنزعات العلمانية والتغريب، ويضيق المستبدّون ذرعاً بالشيخ، وتصل إليه تهديداتهم من هنا وهناك… فيقف يوماً ليقول لهم بجرأة العالم المسلم المجاهد:
ولستُ أبالي حين أُقتل مسلماً       على أيّ جنب كان في الله مصرعي
اعتُقل الشيخ رحمه الله مدة أحد عشر شهراً في سجن تدمر الصحراوي، وأُفرج عنه على أثر حرب حزيران 1967م، وبعدها غادر إلى السعودية، أستاذاً في جامعاتها كما ذكرنا.

على الصعيد التنظيمي

ومع رغبة الشيخ الملحّة في الانصراف بكليّته إلى الجانبين العلمي والدعوي، اضطر أكثر من مرة، أن يستجيب لرغبة إخوانه، فيتحمّل المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، ثم ما أسرع ما تخلى عنه، عندما وجد من يتولاه، ثم أُلجئ مرة أخرى إلى تولي هذا المنصب سنة 1986 ميلادية عندما عصفت بالإخوان ريح الخلاف الداخلي.
وظل راعياً للجماعة ومراقباً عاماً لها حتى سلم الأمانة عام 1991م لفضيلة الدكتور حسن هويدي متفرغاً للعلم والتأليف. وخلال هذه الفترة، وفي عام 1995م قام الشيخ رحمه الله – بدافع من حرصه على وطنه ووحدة أبنائه وكرامة الشعب السوري – بمحاولة لرأب الصدع الذي حصل في سورية في عقد الثمانينيات، فعاد إلى سورية مؤملاً إجراء لقاءات مع المسؤولين ابتغاء تقريب وجهات النظر وتخفيف المعاناة التي أدت إليها أحداث سابقة..
ولكن الأمور لم تَجْرِ كما أراد الشيخ لها أن تكون، فعاد إلى الرياض.
***

وفاته

في أواخر شهر رمضان 1417هـ ألمّ بالشيخ مرض التهابي، وهو مقيم بمدينة الرياض، وتفاقم المرض حتى حان الأجل فالتحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال سنة سبع عشرة وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق للسادس عشر من شباط سنة سبع وتسعين وتسعمئة وألف للميلاد، عن عمر ثمانين عاماً قضاها في طاعة الله والدعوة إلى دينه وتعليم شرعه.
وقد غسّله ابنه الشيخ سلمان وتلميذه الشيخ محمد الرشيد، وصُلّي عليه عقب صلاة الظهر في الرياض، ثم نُقل بطائرة خاصة مع أفراد أسرته وبعض أحبابه إلى المدينة المنورة حيث صُلّي عليه بعد صلاة العشاء، ثم شيّعه أحبابه وتلاميذه الذين وفدوا من بقاع مختلفة إلى مقبرة البقيع، فنال شرف جوار النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تشرّف بخدمة سنّته الشريفة، فرحمه الله رحمة واسعة، وتقبل الله منه صالح ما قدّم، وتجاوز عن خطاياه، وجزاه خيراً على ما نفع به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

محمد عادل فارس