الإخوان المسلمون في سورية

الـمَفقودون والـمَخفيّون قسراً:  الجريمة المزمنة المستمرّة لا تنتهي بقرارٍ أُمَـمِـيّ، لكنّ القرار يكشف الخاذلين أعداء الإنسانية والشعب السوريّ

 
أحاديث الإخفاء القسريّ في سورية.. ليست ذات شجونٍ فحسب، بل هي أحاديث تمتاز بأعظم ما لدى الإنسان من ألمٍ وأسىً وحزن، فالإخفاء القسريّ ليس طارئاً في سورية، بل هو نهج ثابت مستمرّ منذ أكثر من أربعين عاماً، وهو عمر تسلّط العصابة الفاجرة الطائفية الأسدية العميلة، إذ لا يمكن العثور على عائلةٍ سوريةٍ لم تفقد أحد أو بعض أفرادها على أيدي مجرمي الزمرة الفاشية الأسدية، التي استولت على عرش البلاد بالقوّة والعمالة للقوى الصهيونية والغربية الإجرامية. وتغييب الأحرار وإخفاؤهم والتنكيل بهم، ثم قتلهم والتخلّص منهم.. هو سلوك أساسيّ للعصابة الطائفية الخائنة. وهو سلوك متعدّد الأشكال والأصناف، عُمره هو عُمر الأحكام العُرفية وقوانين الطوارئ، سلوك بدأ منذ أقلّ من نصف قرنٍ بقليل، ولم ينتهِ حتى الآن، فهو مستمرّ باستمرار الجَهَلَة الجائرين المجرمين، الذين يستبدّون بكل شيءٍ في البلاد، ويطبعون بصماتهم النكراء فوق الأرض وتحتها.. على ظهرها وفي باطنها!..
*     *     *
لعلّ التلاعب بالحقيقة وإخفاءها والتمويه عليها والمراوغة للحؤول دون ظهورها.. لعلّ ذلك في نهجِ الزمرة المجرمة.. هو عملية الإخفاء الأولى في البلاد، طوال عشرات السنين من التاريخ السلطويّ الأسود، فالحقيقة في ظلّ العصابة الأسديّة، هي الضحية الكبرى المخفيّة!..
في سورية، كل جانبٍ من جوانب الحياة له مَخفيّون ومجازر، وكل المجازر لها مقابر، وكل المقابر تتستّر عليها الزمرة الآثمة، بغطاءٍ دَوْليٍّ وإرهابٍ مخابراتيٍّ داخليّ، ويُبرّرها الحكّام الشموليونّ المجرمون، بضرورة السير على النهج الثوريّ المستمَدّ من مناهج الثورات الحمراء السوفييتية البائدة. ولم يَعُد مُستَغرباً أن يكونَ الناطق بهذه الحقيقة، هو الضابط (حافظ بن سليمان الوحش)، حين أطلقها من ثكنة (الشرفة) في حماة عام 1964م: (سنُصفّي خصومَنا جسدياً)، وذلك قبل أن ينقضّ على كرسيّ الحكم بست سنوات!..
*     *     *
كان (نزار قباني) يتغنّى بدمشق، ويصفها أجمل وصفٍ تتلهّف له القلوب، وتستوعبه العقول، وتستنفر له كل الأحاسيس المرهَفَة، حين قال:
قَمرٌ دمشقيٌ يُسافرُ في دمــي = وبلابلٌ.. وسنابلٌ.. وقِبَابُ
الفُلُّ يبدأ من دمشقَ بياضَهُ = وبِعِطرِها تتعطّرُ الأطيــابُ
إلى أن يقول:
والماءُ يبدأُ من دمشقَ، فحيثُما = أسندتَ رأسكَ، جَدولٌ ينسابُ
ولم يخطر في بال القباني يومها، أن يأتيَ يومٌ على سورية الشام، لتطعنَ الطغمةُ الحاكمة مقولَتَه الشعرية المتألّقة، فتصبح الحقيقة الجديدة: (.. حيثُما أسندتَ رأسكَ، مقبرةٌ ترتابُ)!.. مع أنّ الشاعر الكبير يستدركُ في القصيدة إياها، ليصفَ الحال، والحال هي دائماً مستمدَّة من لعنة الحاكمين باسم الزمرة المارقة على هذا الشعب السوريّ المنكوب بهم:
من أينَ يأتي الشِّعرُ.. حيَن نَهارُنا = قَمعٌ، وحينَ مساؤنا إرهابُ
سَرَقوا أصابِعَنا وعِـــطْــرَ حُـــــــــروفِـــــــــنــا = فبأيِّ شَيءٍ يَكتبُ الكُتّابُ؟!..
ثم يختم نزار وصفه لطبيعة الحال السورية، بكلامه الجامع:
والحُكمُ شُرطيٌّ يسيرُ وراءَنا = سِرّاً.. فنكهةُ خُبزِنا استجوابُ!..
هي ذي القضية إذن، حُكمٌ بوليسيٌ مُستبِدّ مُتجبِّر، يتحكّم بالبلاد والعباد، ويتدخّل في كل شؤونهم العامة والخاصة، ليصوغَها على قوالب العصابة الشموليّة المتسلّطة، وعلى نُمرة قالب الزمرة الحاكمة، التي اغتصبت السلطة في صبيحة الثامن من آذار لعام 1963م.. حُكمٌ بوليسيٌ لم يصنع لنا إلا المجازر والمقابر، التي ملأت كلَّ مكانٍ وزاويةٍ في الوطن الحبيب، ووقف أربابها إلى جوارها أو فوقها، يتراقصون على أشلائنا، ويَسْكَرون بدمائنا، ويُعَربِدون على قِيَمنا وأسسِ الحياة الفاضلةِ في نفوسنا!..
*     *     *
في سورية، مجازر من نوعٍ فريد، وكل المجازر فيها لها مقابر!.. فلسِلك (التعليم) مجزرة، راح ضَحيّتها مئات المعلّمين وأساتذة الجامعات غير البعثيين، قُبِروا أحياء في غَيابة الإهمال والإقصاء وضياع لقمة العَيش.. ولسِلك (القضاء) مجازره، وضحاياها مئات القضاة الأكفياء، الذين دُفِنوا في غياهبِ الحياة، وحوربوا بكل الوسائل الوضيعة.. و(للنقابات المهنية) مجازر ومقابر، بمرسومٍ جمهوريٍّ أسديٍّ دكتاتوريٍّ أُطلِقَ عنانه بتاريخ: (8/4/1980م).. و(للدستور) مجزرة ومقبرة، شُيِّدَ على جنباتها دستور المافيا الأسديّة، الضامن لاستمرار التسلّط والاستبداد والحُكم الأحاديّ.. و(للقوانين المدنية والقضائية) مجازر ومقابر، بُنيَ على أنقاضها قانون الطوارئ والأحكام العُرفية والقانون القاتل رقم (49) لعام 1980م.. و(للمحاكم المدنية) مجازر ومقابر، أقيمت على أنقاضها محاكم ما يسمى بأمن الدولة، الاستثنائية، والمحاكم العسكرية الميدانية.. و(للمجتمع المدنيّ) ومؤسساته مجازر ومقابر، حَلّت محلّها تشكيلات البعث ومنظماته الشوهاء وبصماته المشوَّهة.. و(للمدارس الشرعية) مجازر ومقابر، دُفِنَت فيها القِيَم الإسلامية الخالصة، لتشغل مكانها قِيَمُ الطائفيين الكارثية.. و(للحجاب الإسلاميّ) مجازر ومقابر، دُفِنَت فيها الفضيلة والعِفَة والطُهر.. و(للطفل السوريّ) نصيبه من المجازر والمقابر، إذ دُفِنَت فيها براءته وفطرته الربّانية السليمة، فرُبِّيَ في منظمات العصابة رغم أنف أهله، على القِيَمِ القمعيّة البوليسيّة، فحُرِّض الولد على أبيه، وحُرِّضَت البنتُ على أمها، والشقيق على شقيقه، وابن العشيرة على شيخه، والتلميذ على مُعلّمه، والجارُ على جاره، والصديق على صديقه.. و(للوحدة والحرية) مجزرة.. فمقبرة، فصارتا بفعل الجزّار الأسديّ الحاكم بَعيدتَيْ المنال بل أبعد من (دَرْب التبّان).. و(للاقتصاد) مجزرة ومقبرة، قام عليها فاسدو العصابة ووصوليّوهم.. فدُفِن فيها كل قرشٍ حلال، وكل خُلُقٍ وطنيٍّ طاهرٍ كريم.. و(للسياسة) مجزرة ومقبرة، سُجِّيَ فيها كل إخلاصٍ للوطن والشعب، وحَلّ محله البهلوانيات السياسية الخيانية التواطؤية، واللّعب على جراح الوطن، من أجل الحفاظ على كرسيّ الحُكم.. و(للأمن والأمان) مجازر ومقابر لا تُحصى، دُفِنَ فيها استقرار المواطن والوطن، وحَلّت محلّه البلطجة المخابراتية والتشبيح والقمع والقلق والرعب والقهر والخوف.. و(لأرض الوطن) مجزرة ومقبرة، دُفِنَ فيها الجولان المحتلّ، ونام الدفّانون الطائفيون الأسديون قريري العيون، يحمون العدوَّ الصهيونيّ.. ويحميهم، ويشترون كراسيّهم بالانخراط في خرافة (التوازن الاستراتيجيّ) تارةً، ومَتاهة (الخيار الاستراتيجي) تاراتٍ وتارات!..
*     *     *
في سورية، عمليات إخفاءٍ ومجازر لا تُعَدّ، ومقابر لا تُحصى، ولعلّ أهونها (على بشاعتها وفظاعتها وشدة إجرامها) المجازر والإخفاء الجسديّ التي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من أبناء الوطن السوريّ الأبرياء، في تدمر وحماة وجسر الشغور وحلب وحمص واللاذقية وإدلب ودمشق والقامشلي ودير الزور، وفي كل السجون والمعتقلات الإجرامية الأسدية، المنتشرة في طول الوطن وعَرضه!..
*     *     *
الحديث عن المفقودين والمخفيّين السوريّين، ومجازر الطغمة الحاكمة ومقابرها الجماعية.. طويل ذو شجونٍ وشجون، نقدّم كل ما قلناه وما سنقوله هديةً، إلى أولئك الحُجّاج الذين يتوافدون على كعبة سلطة عصابة دمشق، ليتنافسوا على التواطؤ مع سفّاحي شعبنا.. فهنيئاً لكل أولئكَ الأرباب الـمُزيّفين الخاذلين المتستّرين المتضامنين مع السفّاحين، الذين لا يهمّهم أمر حتى لو دُمِّر الوطن كله على رؤوس أبنائه، وحتى لو أخْفَتْهُم العصابة الإجرامية المتسلّطة.. فما يهمّهم وحسب، هو أن يُحمى سفّاحو العصابة وجلاوزتها المجرمون، ويُحمى عرش الطغمة الكبتاغونية الحاكمة البغيضة!..
هنيئاً لكل الصُمّ العُمْيِ البُكم، المتواطئين الخاذلين، المتستّرين على جرائم العصابة الطائفية العميلة التي يندى لأفعالها جبين الشرفاء، ونقول لأرباب الخذلان، الذين وصل خذلانهم إلى أروقة الجمعية العامة للأمم المتّحدة:
(.. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ.. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) (رواه مسلم).
 ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..)) (المجادلة:22).
فافعلوا ما شئتم أيها القوم المتواطئون، وحجّوا ما قدرتم إلى كعبة نيرون سورية، وتنافسوا على التملّق والتشدّق بالباطل أمام كاميراته.. لكن اعلموا جيداً، أنّ التاريخ لا يرحم، وأنّ شعبنا لا ينسى، ولن تؤثّر مجزرة جديدة ومقبرة للحق والحقيقة تشاركون فيها.. لن تؤثّر على إصرار هذا الشعب المضطهَد، بكل حزمٍ وقوّة، لانتزاع حقوقه المشروعة كاملة، في الحرية والتحرّر من استبداد العصابة الجائرة وباطلها وظلمها وعدوانها، مهما حاول أرباب الخذلان وعبيدهم تزوير الحقيقة أو إخفاءها!..
((.. وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)) (طـه: من الآية97).

د. محمد بسام يوسف