الإخوان المسلمون في سورية

الهجرة النبوية.. أمل وقِيَم وحضارة

المسلمون الذين عايشوا هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة، أدركوا أنها حدثٌ ضخم غيّر وجه التاريخ، فمع أنها لم تحدث في مطلع العام، بل حدثت في شهر ربيع الأول، فقد جعلوا العام الذي حدثت فيه بداية تاريخهم.
وإذاً فليست الهجرة مقصورة على معنى تخلّص المؤمنين من أذى قريش، بل حملت معاني عليا، يمكننا أن نذكر بعضها.
فقد بدأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هجرته باتجاه الجنوب، وهو عكس الاتجاه نحو المدينة، لأن قريشاً التي تتوقع هجرته إلى المدينة سترصد الطريق المتجهة نحو الشمال. ومع علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله معه، وأنه لا بد حاميه، فقد علّمنا أن نأخذ بالأسباب.
ووصل إلى غار في جبل ثور، وبقي هناك مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه ثلاثة أيام حتى تهدأ متابعة قريش له. لكن قريشاً حين علمت أنه قد نجا من قبضتها أرسلت دورياتها لرصد جميع الطرق التي تخرج من مكة، فوصلت إحدى هذه الدوريات إلى غار ثور بالذات، حتى خشي أبو بكر من اكتشافها مكانهما، وكانت كلمة النبي صلّى الله عليه وسلّم: “لا تحزن إنّ الله معنا”، نحن عبيد لله، وقد خرجنا بإذنه، وهو معنا، فلا تخف ولا تحزن.
وبعد مغادرتهما غار ثور باتجاه المدينة تمكّن سراقة بن مالك المدلجي من الاقتراب منهما فعثرت فرسه، وتكرر ذلك منها حتى ساخت يداها في الأرض، فطلب منهما الأمان. سبحان الله: الذي كان في مكان التهديد لهما إذ هو يطلب منهما الأمان… ثم قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت يا سراقة إذا لبستَ سواري كسرى؟!.. وسبحان الله أيضاً! ما هذا الأمل الذي يملأ صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو، في ظاهر الأمر، لا يأمن أن يصل سالماً إلى المدينة، فإذا هو يبشّر سراقة بسواري كسرى، يعني أنه واثق من أن الله سيُنجّيه وسينصر دينه حتى يفتح المسلمون بلاد فارس، وخلال فترة ليست كبيرة، حتى إن سراقة يكون ما زال حيّاً، وسيؤول إليه سوارا كسرى. إنها الثقة بوعد الله.
وما إن وصل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة حتى بنى المسجد، ليس لمجرد مكان للصلاة، فصلاة المسلم تصح فوق كل أرض: “وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً”. رواه أحمد والبخاري. إنما المسجد نقطة انطلاق المسلمين، ومكان تجمّعهم الأول، فيه يتعارفون، ويُصلّون، ويتعلّمون، ومنه تنطلق جيوش الفتح..
ثم إنه كتب وثيقة تضبط علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وعلاقتهم بيهود المدينة، بل وعلاقتهم بكل من لم يؤمن باللّه، فكانت الوثيقة الدستورية الأولى التي لم تكن العرب تعرف لها نظيراً. إنها الحضارة.
والأعراف التي كانت سائدة في الجزيرة العربية كلها أن يكون ولاء الإنسان إلى عشيرته وقبيلته، أما أن يكون الولاء للعقيدة فهذا مرتقى لم يكن في معهود الناس، فالأوس والخزرج اللتان كانتا في خصام وحروب أصبحتا جسداً واحداً يتغذّى بالإيمان، وينطلق بالإيمان، وينتصر للإيمان.
وقد أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرسخ في نفوس المؤمنين أن الهجرة، إن كانت في شكلها انتقالاً من أرض إلى أرض، فإنها في حقيقتها طاعة لله، وهجران لكل منكر: “المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”. رواه البخاري والنسائي.
وربما، في عصرنا هذا، قد شهدنا ملايين المسلمين، من أقطار شتى، يهاجرون في بلاد الله الواسعة، فما أحراهم أن يتخلّقوا بأخلاق المهاجر في سبيل الله. ((ومَن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغَماً كثيراً وسَعَة، ومَن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركْه الموتُ فقد وقع أجره على الله. وكان الله غفوراً رحيماً)). {سورة النساء: 100}.

محمد عادل فارس