أسامة شحادة
عمارة الأرض والاصلاح فيها من أهم المقاصد التي خلق الله البشر لأجلها، وكان الرسل صلوات الله عليهم يعلّمون الناس ويصرحون لهم بذلك بكل وضوح، كقول صالح عليه الصلاة والسلام لقومه ثمود: “وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قومِ اعبدوا الله ما لكم مِن إلهٍ غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب” (هود: 61)، فصالح عليه الصلاة والسلام ربط بين عبادَة الله عز وجل وبين عمارة الأرض، وهذه العلاقة تلخّص باختصار غاية الوجود البشري على الأرض، والوظيفة والمهمة المناطة بالإنسان في هذا الكون، وهي: طاعة الرحمن وعبادته، وعمارة الأرض.
ولعل كثيرا من المسلمين يستحضر أن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة لله عز وجل لكونها غاية واضحة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: “وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات: 56)، بينما قد يظن بعض المسلمين أن عمارة الأرض والتقدم الحضاري ترف لا يحضّ عليه الإسلام، أو أنه أمر سلبي يلهي عن طاعة الرحمن، خاصة مع انتشار مفاهيم منحرفة للزهد وحقيقة الإسلام عبر بعض المقولات والطرق الصوفية التي ساهمت في محاربة العلم الشرعي والدنيوي والعمل والسعي الديني والدنيوي فأنتج ذلك حالة كبيرة من الجهل بالعلوم الدينية والدنيوية واستفحال البطالة الدينية، فتركت العبادات والشعائر وأركان الإسلام، وراجت الحضرات والموالد والبدع بحجة الكرامات والوصول إلى مرحلة اليقين ورفع التكاليف الشرعية، وأدت إلى خراب العمران وتراجع الصناعات حتى عدّ من أسباب ضعف الدولة العثمانية انحسار الصناعات العسكرية وتدني جودتها بسبب تفشي الأفكار الصوفية بين الجنود الانكشاريين، والتي كانت تدعو لمحاربة العلم والتواكل بدل التوكل والاكتفاء بالموالد عن اتخاذ الأسباب العملية.
ولعل مما يبين لنا مركزية مقصد عمارة الأرض وتنمية الأوطان في الإسلام أن نستحضر أمر النبي صلى الله عليه وسلم ووصيته للمسلمين بعمارة الأرض حتى لو قامت القيامة! كما في قوله عليه الصلاة والسلام: “إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، فعمارة الأرض مهمة لا تتوقف حتى قيام الساعة.
وبعد أن تبيّن لنا أن مقصد عمارة الأوطان وإصلاح البلاد مقصد شرعي ننتقل إلى بيان أن تحقيق هذا المقصد لا يكون على وجه التمام والكمال إلا من خلال تحقيق مقصد عبادة الله عز وجل، ولقد ربط القرآن الكريم في آيات كثيرة بين الأمرين، من خلال مستويين: مستوى العلاقة بين مقصد عمارة الأرض وغياب مقصد عبادة الرحمن ومستوى العلاقة بين عمارة الأرض مع حضور مقصد طاعة الرحمن.
ومن تلك الآيات التي ترشد لبيان مستوى العلاقة بين مقصد عمارة الأض وغياب مقصد عبادة الرحمن قوله تعالى: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون” (الروم: 41)، فالآية تنص على مسؤولية الناس وأعمالهم المخالفة لمنهج الرحمن عن ظهور الفساد ونقض عمارة الأض بأشكال متعددة منها:
– الفساد الطبيعي من الكوارث والزلازل وغيرها بسبب معاصي الناس وذنوبهم، فيعاقبهم الله عز وجل على ذلك، كما في قصص الأمم السابقة.
– أو أن فساد أعمال الناس وعبثهم تجاه الطبيعة من حولهم وبما يناقض السنن الإلهية في الكون يتسبب باضطرابات وفساد فيها، كما نعيش اليوم مشكلة ثقب الأوزون بسبب انبعاث الغازات الضارة من المصانع.
– أو أن فساد أعمال الناس وسلوكهم بما يناقض طاعة الرحمن يتسبب بفساد كبير، إذ تسبب انتشار فاحشة الزنا والشذوذ بظهور الأمراض الجنسية، وأخطرها مرض الإيدز.
– أو أن فساد أعمال الناس وسلوكهم في الشأن العام فيما بينهم بخلاف أوامر الرحمن يتسبب بظهور الطغيان والاستبداد كما في قوله تعالى: “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين” (الزخرف: 54).
ويتضح من هذا كله أن الخروج عن مقصد عبادة الله عز وجل وطاعة الرحمن يتسبب بجلب الفساد بأشكاله المختلفة وصوره المتنوعة للأوطان.
وفي المقال التالي نبين المستوى الثاني وهو العلاقة بين عمارة الأرض وحضور مقصد طاعة الرحمن.
ختاماً؛ عمران الأوطان وصلاح البلاد مطلب كل عاقل وشريف ومخلص، وهي غاية لا يختلف فيها الناس، بل يتسابقون لحمل شعاراتها ورفع راياتها، يتساوى في ذلك الصادقون والكاذبون والمصلحون والمفسدون وأهل السلطة وأهل المعارضة، بل حتى الغزاة المحتلون تراهم يتشدقون بأنهم رسل الحرية والإعمار والنهضة!!
والفيصل في تمييز الصادقين المصلحين من الكاذبين المفسدين هو معرفة حقيقة أفعالهم وثمرات سياساتهم ومواقفهم كما قال المسيح عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام “مِن ثمارهم تعرفونهم”.
الغد الأردنية