تتوهّج المعاني السامية حين يُذكر رمضان ويُذكر الصيام.
فهل كان رمضان هو الشهر العظيم فاختاره الله لنزول القرآن، أم أنه صار الأعظم لأن القرآن العظيم نزل فيه؟!.
لقد اجتمعت العظمة كلها في الشهر العظيم الذي نزل فيه القرآن العظيم، على النبيّ العظيم ذي الخُلُق العظيم صلى الله عليه وسلم.
ولقد ربط الله عزّ وجلّ في الآيات التي فرض فيها الصيام، بين هذا الشهر وبين نزول القرآن فقال: ((شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن)). وبيّن أن من ابتغى الهداية والسير على طريق بيِّنة، والنور الذي يفرّق بين الحق والباطل… فها هو ذا كتاب الله بين يديه (هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان). ومن تنكّب القرآن فهو على جهل وفي جهالة وجاهلية، مهما حاز من العلوم والفنون. إنه من الذين ((لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون)). {سورة الروم: 7}.
وتأكيداً لارتباط هذين النورين: رمضان والقرآن، كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان (أي يدارسه إياه)، ففي صحيح البخاري: “… إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العامَ مرتين. ولا أراه إلا حضر أجلي”.
وكان أثر هذا المعنى في نفوس المؤمنين، على مر العصور، كبيراً، فتظهر أنوار هدى الله في سلوكهم في رمضان باهرة.
تظهر في تحقيق التقوى في القلوب، فتفيض على الجوارح والسلوك. فالتقوى هي الغاية من العبادة كلها: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)). {سورة البقرة: 21}. والصيام عبادة من أجلّ العبادات فلا بد أن تكون التقوى غايته: ((يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)).
وإذا كان الغافلون يحصرون التقوى في شعائر محدودة، وأوراد معدودة، فإن التقوى في دين الله، كما فهمها ومارسها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من بعده، هي حساسية في القلب والشعور، تحمل صاحبها على القيام بكل ما يرضي الله، وتحجزه عن كل ما لا يرضيه سبحانه. وهي بذلك تتضمن الصلاة والصيام والصدقة والذكر والأمر بالمعروف والجهاد… فلا غروَ أن تتمثل التقوى في أعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته: بذلاً للأموال والأنفس نصرةً لدين الله، فنجد في صفحات تاريخهم معارك عظيمة خاضوها في رمضان خاصة، وفي غير رمضان.
فمن معارك رمضان المجيدة غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة في السنة الثامنة، ومعركة فتح الأندلس ووادي لكّة في 28 من رمضان عام 92هــ بقيادة طارق بن زياد، ومعركة الزلاقة عام 479هــ التي انتصر فيها المسلمون في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين، ومعركة حطّين عام 584هــ التي أنهى فيها صلاح الدين الأيوبي تحرير القدس، ومعركة عين جالوت عام 658هــ التي انتصر فيها القائد المسلم قظز على الجيش المغولي بقيادة كتبغا نائب هولاكو.
وهكذا فهم المسلمون رمضان شهرَ صيام وقيام وتلاوة للقرآن وصدقة وجهاد في سبيل الله… لا شهر كسل وبطالة وتفنّن في ألوان الطعام والشراب، وضروب من اللهو وقتل الأوقات.
ولكن هل مِنْ صلة بين شهر الصيام وصنوف العبادة الأخرى؟
هناك الصلة الوثيقة بين رمضان وتلاوة القرآن فــ ((شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن)). وكما ذكرنا فقد كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ في كل رمضان، وهناك الصلة بين رمضان وقيام الليل فــ “مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه”. رواه البخاري ومسلم. وبين رمضان والإقبال على الطاعات والإقلاع عن المعاصي، لأنه “إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين”. رواه مسلم. وبين رمضان والإنفاق في سبيل الله، فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.
أما الصلة بين الجهاد وشهر الصيام فقد تبدو بعيدة، وإنها لقريبة لمن عرف حقيقة هذا الدين الذي يقول كتابه المنزل: ((قل: إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)). {سورة الأنعام: 162}. فحياة المسلم ونشاطاته وجهوده كلها لله، لا فرق بين أن يكون ذلك في صلاة أو صيام أو جهاد.
ولو نظرنا من الزاوية التربوية لوجدنا أن الصيام انتصار للإيمان في نفس المؤمن على شهواته، فقد خلق الله الإنسان وخلق فيه الشهوات المتمثلة في الغرائز والدوافع. وما كان لله أن يقمع الدوافع التي جَبَلَهُ عليها، إنما شرعَ له ما يضبطها ويجعله سيداً عليها، لا عبداً لها. فمن دوافع النفس البشرية حب المال، فهل يسوغ لعاقل أن ينهب المال حيث شاء ليُشبع هذا الدافع؟ أم أن هناك ضوابط في حيازة المال، وفي التصرف فيه، وفي إنفاقه؟. وهذه الضوابط لا تمنعه من إشباع هذا الدافع، إنما تقوم بتأجيل هذا الإشباع وتحديده ليكون ضمن السنن التي شرعها الحكيم الخبير.
وفي الصيام يؤجّل المسلم، إرضاءً لربّه، إشباع دوافع الطعام والشراب والجنس، فيتحقّق الانتصار على شهواته، ويُثبت أنه إنسان راشد قوي الإرادة.. إنسانٌ جدير بأن يجابه عدوان المعتدين، وطغيان الطاغين. فإن مجاهدة النفس حتى تنتصر على الشهوات قريبة من مجاهدة أهل الفجور والطغيان.
ونختم هذا المقال بكلمة للحسن البصري أحد سادة التابعين: “إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسَبَقَ قومٌ ففازوا، وتخلّف قومٌ فخابوا”.
اللهم أعنّا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان، وتقبّل منا إنّك أنت السميع العليم.