إنه عبد الله بن المبارك المروزي [نسبة إلى مَرُو في خراسان]. وُلد عام 118هـ في عهد هشام بن عبد الملك، وتوفي سنة 181هـ في عهد هارون الرشيد.
وقد عاصر أئمة الفقه الكبار: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ويحيى بن سعيد الأنصاري… وتتلمذ عليهم.
مزاياه: كان أليفَ القرآن والحج والجهاد، واجتمعت فيه خصال الخير.
عُرف في زمانه بأنه شيخ الإسلام، وعالم زمانه، وأمير الأتقياء.
قال عنه سفيان: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سَنَةً مثله، فما أقدِرُ أن أكون ولا ثلاثة أيام.
وكان كثير الرحلة في طلب العلم عامّة، والحديث خاصّة. وقد قال عن نفسه: حملتُ العلم عن أربعة آلاف شيخ، فَرَوَيتُ عن ألف شيخ!.
وكان يطلب العلم لينتفع به في دنياه وآخرته.
وكان والده شديد الورع، وجاء ابنه عبد الله مثلَه.
يُحكى أن والده كان يعمل في بستان لمولاه، فطلب منه يوماً رمّاناً حلواً، فجاء برمّان فوجده حامضاً، فكرّر الطلب أكثر من مرة، ثم غضب منه وقال له: أنتَ ما تعرف الحلوَ من الحامض؟ فقال: لا. فتبيّن أنه لا يأكل من البستان، لأن صاحبه لم يأذن له، فأُعجب به صاحب البستان لأمانته وورعه، فزوّجه ابنته، ورزقهما الله ابناً ذاعَ صيتُه في الآفاق: ورعاً وتقىً وعلماً وجهاداً.
قال عبد الله بن المبارك: استعرتُ قلماً بأرض الشام، فذهبتُ على أن أردّه، فلما قدِمتُ مَرُو، نظرتُ فإذا هو معي، فرجعتُ إلى الشام حتى رددتُه على صاحبه.
وكان ابن المبارك مجاهداً في سبيل الله، شجاعاً، عظيم البلاء.
قال أبو حاتم الرازي: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفْنا العدو، فلما التقى الصفّان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فطارده ساعةً فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتُم وجهه بكُمّه.
وقال محمد بن فضيل بن عياض: رأيتُ ابن المبارك في المنام، فقلت: أيُّ الأعمال وجدتَ أفضلَ؟ قال: الأمر الذي كنتُ فيه. قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم.
وقصيدته التي خاطب فيها الفضيل بن عياض مشهورة، وفيها:
يـا عابــــدَ الحرمين لو أبصـرتَنا لعلمتَ أنك في العبادة تلعبُ
مَن كان يخضِبُ خدَّه بدموعه فـنُحــــــورنـا بدمائـنـا تتـخضّــــبُ
* * *
ومَن كان في هذه المقامات العليا من العلم والتقوى والجهاد… فلا غرابة أن يكون مستجاب الدعوة. وقد روي أنه دعا للحسن بن عيسى، وكان نصرانياً: اللهم ارزقه الإسلام، فاستجاب الله دعوته.
* * *
ومن فضائله: الكرم، لا سيما على طلبة العلم، وحسنُ العشرة، والبكاء من خشية الله…
وكان يُكثِرُ الجلوس في البيت في الكوفة، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه؟!.
وذات مرة عطس رجلٌ عنده، فقال له: أيشٍ يقول الرجل إذا عطس؟ قال الرجل: الحمد لله. فقال له: يرحمك الله. وهذا دليل أدبه وحُسن عِشرته.
وكان غنياً شاكراً، يقتصد على نفسه، ويُكرم ضيوفه غايةَ الإكرام، سواءً من طلاب العلم، أو العلماء، أو رفقاء الحج، أو الجهاد. وكان يخُصّ أهل العلم بالإكرام ويقول: إنْ تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنّاهم بثُّوا العلم لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. لا أعلم بعد النبوة أفضلَ من بثّ العلم.
وكان مصدر رزقه من التجارة التي بارك الله فيها.
من أقواله: طَلَبْنا العلمَ للدنيا فدلّنا على ترك الدنيا.
رُبَّ عَمَل صغير تُكثّره النيّة، وربّ عمل كثير تُصغّره النيّة.
قال عنه القاسم بن محمد، بعد أن رآه يوماً وهو يبكي في ظلمة الليل: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا.
وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: ما رَفَع اللهُ ابن المبارك إلّا بخبيئة كانت له [أي بعملٍ صالحٍ لم يطّلع عليه الناس].
من آثاره: (السنن في الفقه)، و(التفسير)، و(التاريخ)، و(كتاب الزهد).
وفاته: توفّي ببلدة “هيت”، مدينة على الفرات في العراق، منصرِفاً من الغزو، لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة للهجرة، وهو ابن ثلاث وستين.
* * *
وبعدُ: أخي القارئ، فهذه سيرةُ مَن قال عنه هارون الرشيد لمّا بلغتْهُ وفاته: مات اليوم سيّدُ العلماء.