تكريم الإسلام للعلم والعلماء أمرٌ لا يجهله مسلم. ويكفي أن نتذكر قول ربنا سبحانه: ((قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. إنما يتذكر أولو الألباب)). {سورة الزمر: 9}. وقوله سبحانه: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)). {سورة المجادلة: 11}.
وكما كان العلم شرفاً لصاحبه في الدنيا وفي الآخرة، فقد حمّل صاحبه مسؤولية كبيرة، حتى إن أحد علماء الشافعية، وهو العلامة أحمد بن حسين بن رسلان، يقول في منظومته صفوة الزبد:
وعالمٌ بِعلمِه لم يعملَنْ معذَّبٌ من قبل عُبّاد الوثنْ
وليس المراد أن لا يقع العالم في أي معصية، فذلك شأن الأنبياء المعصومين، إنما المراد أن لا يكون فاسقاً أو مبتغياً بعلمه أعراض الدنيا، فيُسيئ إلى العلم والعلماء، كما قال العلامة القاضي أبو الحسن الجرجاني:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظّموه في النفوس لعُظّما
وبشكل خاص فقد حذّر أهل الفضل في كل عصر من التقرّب إلى السلاطين، فإن هذا مدعاةٌ، في غالب الأحيان، إلى الطمع بعطاياهم، بمقابل مدحهم بالباطل، والسكوت على ظلمهم. وقد كانوا يحذّرون من ذلك في عهود الدول الأموية والعباسية والعثمانية، حيث كان الخلفاء والأمراء يحكمون بشريعة الله ثم تصدر منهم مخالفات للشرع، صغيرة أحياناً، وكبيرة فاحشة أحياناً، فكيف يكون الأمر إذا كان الحاكم يُقْصي شريعة الله، ويحكم بغير ما أنزل الله؟ وكيف إذا كان طاغية يقتل مَن يعارضه ويكون في عنقه دماء العشرات، بل المئات… بل مئات الآلاف من الرعية؟!!.
ولا بد أن نثبت هنا أمرين:
الأول: أننا لا ندخل في قلوب هؤلاء الذين يداهنون الحاكم ويتودّدون له، بل نحكم على ظاهر ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال.
الثاني: ليس من طبيعة البشر أن يكونوا على المستوى العالي الرفيع. فلن ننتظر من العلماء جميعاً أن يكونوا مثل سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وسيد قطب ومحمد خير الزيتوني وهاشم المجذوب وموفق سيرجية… لكننا ننعى على الذين يقولون للطاغية الذي يهاجم المتظاهرين السلميين في ميدان رابعة: اضرب على المليان. أي إنه يحضّه على قتل المسلمين. ((ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً)). {سورة النساء: 93}. أو يقولون عن الذين تجمّعوا قرب الجامع الأموي بدمشق يندّدون بالظلم…: إن جباههم لم تعرف السجود.
ويبقى سواد العلماء ممن لم يبلغوا مستوى سعيد بن جبير وأمثاله، ولم ينحدروا إلى درْك النفاق ويشاركوا القاتل بتحريض وتأييد. وسواد العلماء هؤلاء منهم من يقارب المستوى الأعلى ومنهم من هو دون ذلك، ونلتمس لهم الأعذار، والله حسيبهم.
ونذكر هنا بعض النصوص الشرعية التي تبيّن موقف المسلم، فضلاً عن العالم المسلم، من الصدع بكلمة الحق:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”. رواه ابن حبان والحاكم وقال: حديث صحيح.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيتَ أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودِّع منهم”. رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
فعندما أجد رجلاً جريئاً يصدع بالحق، ويقول للظالم: يا ظالم… وأرى نفسي أضعف من أن أفعل مثله، أكْبِرُ ذلك الرجل، وأعترف بضعفي، أو بعذري، ولا أتعالم على هذا الذي فعل ما لم أجرؤ على فعله!.
وعندما احتال بعض بني إسرائيل على اصطياد الحيتان يوم السبت، وحذّرهم أهل الخير من هذه الفِعلة وُجدت فئة تثبّط الخيّرين: ((وإذ قالت أمة منهم: لمَ تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذّبُهم عذاباً شديداً. قالوا: معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون)). {سورة الأعراف: 164}.
إنهم كالذين يتّهمون الصلحاء اليوم بأنهم مفسدون أو مثيرو فتنة ((ألا في الفتنة سقطوا)). {سورة التوبة: 49}.
وماذا كان موقف العلماء الأثبات ممن يتقرب إلى الحاكم ويسكت عن ظلمه؟ (ونذكّر أنهم يتكلّمون عن حاكم يحكم بشريعة الله، ثم تقع منه بعض المظالم).
الإمام إسماعيل بن إبراهيم، المشهور بابن عُليّة، كان صاحب فضل حتى قيل عنه: سيّد المحدّثين، لكنه حين رضي أن يلي القضاء أو الصدقة لهارون الرشيد، نهاه عن ذلك الإمام الحجّة عبدالله بن المبارك، وكتب إليه أبياتاً يلومه فيها. ومنها:
يــا جـاعل العلم له بازيــاً يصطاد أموال المســاكين
أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين
ودَرْسُــــــــك العــلم بآثـــــــــاره في ترك أبواب الســلاطين
تقول: أُكْرهتُ فماذا كذا زلّ حمار العلم في الطين
وقال ابن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ولا دين. قيل له: ولم؟ قال: لأنه يرضيه بسخط الله.
قال الفضيل: ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بُعداً.
وقال أبو ذر لسلمة: يا سلمة.. لا تغْش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب شيئاً من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
وفي طبقات الشافعية: يقول الإمام السبكي: إنما يُتلف السلاطينَ فَسَقَةُ الفقهاء، فإن الفقهاء ما بين صالح وطالح، فالصالح لا يتردد إلى أبواب الملوك، والطالح غالباً يترامى عليهم، ثم لا يسَعُه إلا أن يجري معهم على أهوائهم، ويُهوِّنَ عليهم العظائم، وإنه أشدُّ على الناس من ألف شيطان، كما أن صالح الفقهاء خيرٌ من ألف عابد.
وقد كتب الإمام سفيان الثوري إلى صديقه عباد بن عباد: “… وإيّاك والأمراء أن تدنو منهم وتخالطَهم، وإياك أن تُخدع فيقال لك: تَشْفع وتدرأ عن مظلوم، أو تردُّ مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما اتخذها فجّار القراء سلّماً”.
نعم، لقد بلغ بهم الورع هذا المبلغ، فكيف بمَن يعظّم الفجار من الحكام ويُضفي الشرعيّة عليهم وعلى ظلمهم؟!. نسأل الله السلامة.