إذا كان الكرام يهيئون لضيفهم أطايب الطعام وأحاسن الرياش، فإن ضيفنا رمضان يطالبنا أن نهيئ له القلوب النقية المنيبة الخاشعة التي ترجو الله واليوم الآخر.
وكأنّا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبدأ بهذه التهيئة منذ شهر شعبان، لا سيما في النصف منه.
روى البخاري عن عائشة الصدّيقة رضي الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر! ويفطر حتى نقول: لا يصوم. فما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان.
والأحاديث الشريفة الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان تبين أن خير هذه الليلة يعمّ، وتستثني نفراً، تختلف الروايات في هؤلاء النفر، لكنها تتفق على أن أصحاب الشحناء من هؤلاء النفر.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يطّلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحنٍ وقاتلِ نفس” أخرجه أحمد والترمذي.
وعند ابن خزيمة، والبيهقي في شُعَب الإيمان: “فيغفر لكل مؤمن إلا العاق والمشاحن”.
وعند البزّار، وحسَّنَه: “فيغفر لكل بشر، إلا رجلاً مشركاً، أو رجلاً في قلبه شحناء”.
وعند ابن حبّان والبيهقي نحوه، وفيه: “إلا لمشرك أو مشاحن”.
نعم، القضية تبدأ من القلب، سواء في الصيام أو الصلاة أو الجهاد أو طلب العلم.. ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صُوَركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”؟. ولنبدأ من القلب: لنطهرْ قلوبنا من كل رياء وحقد وكِبْر وحسد، ولنطهرْها من رعونات الجاهلية: من التعصب للبلدة والعشيرة ومن كل دواعي الفُرقة… ولنسامح كل من أساء إلينا، ولنستغفر الله عما صدر عنا من إساءات في حقوق الله وفي حقوق عباده.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية: “القلب السليم هو الذي سَلِمَ من الشرك والغلّ والحقد والشح والكِبْر وحب الدنيا وحب الرئاسة”!.
***
فإذا جهدنا في تطهير قلوبنا سهُل علينا أن نصوم الصيام الذي نرجو أن يكون مقبولاً، فلتصم بطوننا عن المفطرات، وليصم سمعنا وبصرنا ولساننا وجوارحنا عن سماع حرام، والنظر إلى حرام، والنطق بحرام، وفعل حرام… لنصمْ عن غيبة وهمز ولمز ومناجاة بالإثم والعدوان، وعن أكل أموال الناس بالباطل، وعن المطْل في أداء الحقوق إلى أهلها، وعن فُحش القول، وعن الخوض في أعراض الناس…
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفُثْ، ولا يصخَبْ. فإن سابّه أحدٌ أو قاتله، فليقلْ: إني صائم”. متفق عليه.
وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدَعْ قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامه وشرابه” رواه البخاري.
ولنكثر من أعمال البِرّ في رمضان، لا سيما في أواخره:
عن عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره”. رواه مسلم.
والمسلم يجد نفسه أكثر طواعية في رمضان لفعل الخيرات وترك المنكرات، كيف لا، وقد انقمعت الشياطين التي تثبط عن الخير، وتؤُزُّ للشر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين” متفق عليه.
ومن أبواب الخير العظيمة في هذا الشهر خاصة، وفي الأشهر كلها عامة، الإقبال على كتاب الله تعالى تلاوة وتدبُّراً وحفظاً وتعلّماً لأحكام تلاوته وتفسير آياته، والتزاماً لأوامره ونواهيه وتوجيهاته وأخلاقه، فهو شهر القرآن، وقد ربطت الآيات الكريمة بين وجوب صوم رمضان وبين نزول القرآن فيه:
((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمْه)).
لذلك كان جبريل يدارس القرآن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أبواب الخير العظيمة كذلك: الإنفاق في سبيل الله.
ففي سنن الترمذي “أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان”.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة”.
ومما يناسب كثرة الإنفاق في سبيل الله أن نقتصد في النفقات على الكماليات وعلى التفنن في ألوان الطعام والشراب.
ولنختم كلامنا هذا بثلاث ملاحظات:
الأولى: لا شك أن في الصيام جوعاً وعطشاً وصبراً عن الشهوات، لكن المقصود الأعظم هو الامتثال لأمر الله تعالى، وليس التعرض للجوع والعطش، وإلا كان ترك السحور وتأخير الفطر أفضل، لأن فيهما زيادة في الجوع والعطش. كلا، بل السحور سنّة مؤكدة، وتعجيلُ الفطر أفضل:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “تسحَّروا فإن في السحور بركة” متفق عليه.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطْر” متفق عليه”.
والثانية: لا ينبغي أن نجعل من رمضان شهر نوم وكسل، بل شهر نشاط وعمل وإنتاج. ويكفي أن نتذكر أن عدداً من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت في رمضان، بل إن اثنتين من أعظم غزواته كانتا في رمضان: غزوة بدر الكبرى وغزوة فتح مكة، كما شهد تاريخ الإسلام عدداً من الفتوحات العظيمة في شهور رمضان.
والثالثة: لنجعل من هذا الشهر موسماً لتدريب نفوسنا على المزيد من الحِلْم والصبر والأناة والإخلاص… ونظن أن الصلة بين هذه الأخلاق وبين الصيام صلة واضحة.
نسأله سبحانه أن يعيننا على الصيام والقيام وتلاوة القرآن وحفظ اللسان وبذل المال والنفس في سبيله وأن يتقبل منا إنه هو السميع العليم.