أراجع نفسي كثيرا في قراءة التاريخ الذي عشت. ومع التناقض الحاد والعميق الذي عشناه نحن السوريين، مع تجربة حزب البعث المرة، فإنني لا أنكر أنني تعرفت على عدد غير قليل من البعثيين النزهاء والشرفاء والصالحين أيضا.
أشعر أحياناً أن التعميمات الوصفية في التزكية أو في الشجب، تكون مباشرة وسهلة ومختصرة، ولكنها لا تكون دائما صائبة. أعرف مواطنين سوريين بعثيين، ناضلوا مع حزب البعث كما يقولون، في كل سنوات العسرة، وانشقوا عنه أول عام وصل به إلى جرة العسل “السلطة”. لأنهم لم يكونوا طلاب قصعة!! وأعرف آخرين كانوا في موقع السلطة، طبعاً في درجات متفاوتة، وكانوا يحاولون..
صلاح البيطار و ميشيل عفلق وغيرهم، انشقوا عن الحزب الذي أسسوه خلال ثلاث سنوات سلطة. لا أحد ينكر أن لهذه الانشقاقات مغزاها الأخلاقي والقيمي والنضالي أيضا.
ربما من السهل عليّ بوصفي من مدرسة فكرية مباينة للفكر القومي أيديولوجيا، أن أختصر، فأنسب إلى حزب البعث كل نقيصة. وأبسط ما يمكن أن أقول فيه: إنه كان مصعداً سهلاً هيناً ليناً للمشروع الطائفي الذي أهلك في وطننا سورية الحرث والنسل. وأبسط ما يمكن أن أستشهد به، هو اعتراف أمينه العام الثاني “منيف الرزاز” في كتابه “التجربة المرة” أن الحزب الذي قاده كان حزبا للطوائف.. ويا له من عار أن يتحول حزب قومي شعاره: أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة..
إلى حزب طائفة عديدها لا يوازي سكان حي من أحياء الأمة العربية!!
ومن اطلاعي على أدبيات الحزب، وما كتبه وأعلنه مؤسسوه الحقيقيون، أدرك أن الحزب -حزب البعث العربي الاشتراكي- لم يكن في لحظة حزباً قطريا، فكيف يمكن أن يكون حزباً طائفيا؟؟ وهذه مفارقة تستحق التأمل من الجميع!!
وحين أتابع ما كتبه وما دعا إليه الرهط المؤسسون من البعثيين أقتنع أنهم كانوا شديدي الحساسية والرهافة ضد كل شعور طائفي ضيق أو عريض. وأدرك أن أولئك الرهط من الرجال كانوا على مستوى من النزاهة ضد الطائفية بحيث يصح أحياناً أن نتهمهم بالغفلة أو بالسذاجة أو بما يصف به أهل حلب الرئيــــس من مدينتهم عندما يقولون عن أميـــــن الحافــــظ: أبو عبدو ..
ندرك بمزيد من التأمل والمراجعة، أن عملية تطييف الحزب، وتحويله إلى مصعد طائفي، بل إلى سرطان طائفي، فتك في سورية بالدولة والمجتمع، تمت عبر عملية تسلل خلفية بضرب من المكر الخفي، غابت عن الذين انطلت عليهم فيها، حكمة سيدنا عمر يوم قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني.
إن القضية التي أحاول البحث فيها، إذا كان جميلاً في الرهط المؤسس لحزب البعث أن لا يكون طائفيا، وأن يبالغ في التنزه من هذا الداء العضال، فما الذي كان ينقصه حتى لا يقع في حبالة هذا المرض الخبيث، فيكون هو ومن خلفه ضحية له؟؟!!
وهذا الذي نقص أولئك الرجال وغيرهم من السوريين كثير، هو الذي أريد أن أدعوه “الوعي الطائفي” تلك الحساسية الرهيفة في لسان الميزان التي تمنع أحداً من أطراف المعادلة أن يفرط أو أن يطغى..
واليوم ونحن نعيش المعترك الطائفي في أكثر مستنقعاته نتانة وقتامة كيف؟؟!!
كيف نحصن أنفسنا ومجتمعنا ضد فيروس “كورونا الطائفية القاتل المميت”؟؟ الفيروس الذي ينتقل عبر الهواء وليس فقط عبر المساس!!
كيف نحقن المواطن السوي والعربي والمسلم بلقاح مضاد للطائفية بحيث لا يمارسها، ولا يقع ضحية لها. وهنا تبرز صعوبة المعادلة. والتوازن يبدأ من نفس المعلم، ومن علمه ومن تجربته وخبرته. والتوازن يظل رهيفاً قلقاً في كل خطوة من خطوات الطريق.
هل يمكن لعاقل في أي قطر اليوم أن يغامر في تجربة أخرى تهلك الحرث والنسل، على أنموذج التجربة السورية أو العراقية أو اليمنية على أمل أن يتعثر بأنموذج لـــ”فارس خوري” جديد؟؟
هذا “الوعي الطائفي” الذي لا أزال أتحدث عنه بطريقة مبهمة، يجب أن يظل حاضراً في العقول والقلوب وبين الأنفاس. وقاعدتنا الدائمة: لا وكس ولا شطط. ويجب أن نظل نبحر في محيطاته حتى لا نغرق فيه من جديد.
التعصب الطائفي مرض خبيث عضال مميت، والوعي الطائفي لقاح محفز تكتب به السلامة والخلاص للجميع. وما زلنا في هذا البحث بحاجة إلى المزيد.