كان ذو القرنين ملكاً صالحاً عادلاً، سعى إلى تنفيذ حكم الله ومنهجه ودستوره في الأرض، وركنه الأساس هو: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً))، أي: الاقتصاص من المشرك الظالم بمن في ذلك الفاسد والخائن والمنافق، وإبعادهم عن مواطن المسؤولية والقرار، وعن مواقع التحكم بعباد الله بغير حق، مع الابتعاد عن موالاة الأعداء الطغاة المجرمين الظالمين.. وبالمقابل: ((وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً))، أي: تقريب المؤمن المحسن المجاهد الصالح التقيّ النقيّ الأمين.. المخلص لبلده وأمته، ووضعه في مواقع المسؤولية التي يستحقّها، ليحملَ أمانة الأمة من موقع اتخاذ القرار، وليحكمَ بما أنزل الله عزّ وجلّ، بهدف عمارة الوطن والأرض لصالح الإنسان والشعب والأمة والإنسانية كلها!..
لكن حين تختلّ الموازين، وتسير الأمور بغير ما أمر به الله جلّ وعَلا.. ما الذي يحصل؟!..
يختلّ كل شيء، وتضطرب الأمور، فيصبح المشركون الظالمون الفاسدون الخائنون المجرمون.. هم المقرَّبين الحاكمين المتسلّطين على الناس، فيوضع هؤلاء في المواقع الحسّاسة، بالأساليب الملتوية والانقلابات العسكرية، وبالإجراءات التي تضمن تسلّط الحكام وأذنابهم على رقاب الشعوب، كمهازل الانتخابات والاستفتاءات الصورية المكشوفة الممجوجة، التي يقوم بها الحكام الدكتاتوريون هذه الأيام!.. وبالمقابل يصبح المؤمنون المخلصون الأوفياء الصالحون.. هم المبعَدين المنبوذين المحارَبين المضطَهَدين!.. عندئذٍ، ستتحوّل السلطات إلى أدواتٍ للشرّ والقهر والفساد والظلم والعذاب.. ويختل بذلك نظامُ الأمة والوطن، وتَعمّ الفوضى، وينتشر الشرك والظلم، وتهوي الأمة إلى هاويةٍ ليس لها قرار، ويهوي الوطن إلى قبضة العدوّ وأعوانه وأذنابه، فتفقد الأمة والوطن هويّتهما وحرّيتهما وكرامتهما!.. وخير دليلٍ على ما نقول، هو ما نشهده اليوم بوضوح، في وطننا وبعض أوطان العرب والمسلمين.
* * *
ثلاثية التمكين:
1- الإيمان بالله، والالتزام بمنهجه القويم، وبالأخلاق الفاضلة.
2- والقوّة المادية والعلمية الممكنة.
3- والتوكّل على الله وحده.
حين يصل ذو القرنين إلى منطقةٍ بين السدّين، يلتقي قوماً متخلّفين حضارياً، يُعانون من عدوان قوم يأجوج ومأجوج، وطغيانهم وفسادهم.. فيطلب هؤلاء القوم المتخلّفون الضعفاء من الملك الصالح القويّ، أن يجدَ لهم الحلَّ الأمثلَ لمنع عدوان المعتدين المفسدين في الأرض (يأجوج ومأجوج):
((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً)) (الكهف:94).
ويرفض الملك الصالح أن يتقاضى أي مالٍ، أجراً على بناء الحاجز الذي سيحمي القومَ من المفسدين الطغاة، لأنه صاحب رسالة، وسبق أن أعلن أنه يسير على منهج الله عزّ وجلّ في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذا واجبه بل فرضٌ من الله عليه، وهي مهمةٌ أوكلها سبحانه وتعالى إلى الصالحين من عباده، لتحقيق العدل بين الناس، وتحريرهم من الخوف والاستعباد والظلم والعبودية لغير الله عزّ وجلّ، وانتزاع حقوقهم، ومعاقبة المعتدين المتجبّرين عليهم، وصَد أذاهم وطغيانهم، والقضاء على فسادهم!..
وهكذا.. فصاحب الرسالة ليس مُرتزقاً، وأجره الأعظم على جهاده وعمله الدائب لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. يناله من الله عزّ وجلّ وحده، فهو لا يجاهد في سبيل أحدٍ من البشر، بل في سبيل الله وحده لا شريك له، لذلك، فالأجر يُستوفى من الذي كلّفه بمهمة الجهاد والعمل الهادف، وهو الله سبحانه وتعالى:
((قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً)) (الكهف:95).
فالتمكين هو من الله عزّ وجلّ أولاً وآخراً، وكذلك الأجر منه أيضاً، وليس من أحدٍ سواه!..
نلاحظ هنا، أنّ الملك الصالح ذا القرنين استخدم وسائل علميةً متقدمةً للتغلب على العدو المفسد، ومن ذلك، أنه استخدم النحاس المذاب مع الحديد، وقد اكتشف الخبراء في عصرنا هذا، أنّ هذه الطريقة تُضاعف من صلابة الحديد ومقاومته إلى درجةٍ كبيرة!.. فهل نتعلّم ونتّخذ العبرة بل العِبَر؟!..
((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)) (الكهف:96).. [قِطْراً: نُحاساً مُذَاباً].
* * *
وبعد أن تغلّب ذو القرنين على العدوّ، لم يُصِبْه الغرور، ولم يشعر بالجبروت، ولم يتكبّر على القوم الذين حماهم وصدّ عنهم ظلم الظالمين وفساد المفسدين وعدوان المعتدين..
بل أرجع ذلك كله إلى فضل الله عزّ وجلّ عليه وعليهم، لأنّ القوّة هي قوّة الله، والعلم هو علم الله، والنصر هو نصر الله وحده لا شريك له، الذي نصرهم على الطغاة المجرمين المعتدين الجبارين الفاسدين، الذين كان يظن الناس أن لا قوّة ستردّهم أو تردعهم وتقف في وجوههم:
((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)) (الكهف:98).
ما أعظم هذه الأخلاق، وما أروع هذه الرسالة.. فهل نستوعب الدرس!..
* * *
لنلاحظ هنا أمراً في غاية الأهمية، هو أنّ أولئك القوم الضعفاء، انتصروا على عدوّهم على الرغم من ضعفهم، وذلك لأسبابٍ مهمةٍ جداً من المفيد أن نستعرضها بإيجاز، أهمها:
1- إنهم سلّموا أمرهم لقيادةٍ حكيمةٍ.. قادرةٍ.. قويةٍ.. واثقةٍ.. تحكم بما أنزل الله!..
2- إنهم امتثلوا إلى شرع الله عزّ وجلّ، ثم توكّلوا عليه وحده، واقتنعوا بأنّ النصر من عنده فحسب!..
3- إنهم فعلوا ما طُلِبَ منهم، وبذلوا ما عليهم من جهد، واتخذوا كل الأسباب الممكنة التي توافرت لهم (على تواضعها)، لردّ العدوان عن ديارهم ووطنهم، ولصدّ الجبّارين في الأرض ودَحْرهم وإسقاطهم!..