الإخوان المسلمون في سورية

كيف نستقبل رمضان؟

الإمام حسن البنا
إنه هلال رمضان، الله أكبر الله أكبر، ربى وربك الله، اللهم أهلَّهُ علينا باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقه، الحمد لله الذي ذهب بشهر شعبان وجاء بشهر رمضان.
في مثل هذا الوقت من العام الفائت كنا نستقبل رمضان، وها هو قد عاد في هذا العام بعدّته المشرقة، وطلعته البراقة المنيرة لنستقبله مرة أخرى؛ فمرحبًا بشهر الطاعة والتزكية والعبادة والطهر.
وترى هل شعر أحدنا بأنها حلقة من سلسلة الحياة المحدودة الحلقات نقصت، ومرحلة من مراحل الأجل المعدودة قطعت، وخطوة في طريق الحياة إلى النهاية الغائبة عن كل إنسان لا تدري كم كتب بعدها لكل منا من خطوات؟
لقد تلاشت هذه الأوقات في محيط الماضي الواسع الفسيح، وذابت في طيات أمواجه كما يذوب الجليد، صهرته الشمس، وفنيت فناء لن تعود بعده أبدًا، وهكذا تتلاحق الأعوام وتتابع السنون.
حبذا لو كان كل واحد منا يحاسب نفسه إذا أصبح وإذا أمسى عن هذه الساعات التي هي أجزاء حياته: فيم أنفقها؟ وما الذي اكتسبه فيها؟ وإلى أى مصير أدته؟
وما من يوم ينشق إلا وينادى: “يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة”، ما أرخص الوقت في نظرنا وهو أغلى شيء، أليس الوقت هو الحياة؟
لقد قالوا: إن الوقت من ذهب، ولا أراهم إلا قصروا؛ فإن الذهب إن ضاع منك عوضته، والوقت إن ضاع لم تعوضه ولو أنفقت ملء الأرض ذهبًا.
ومن ذا الذي يقيس الحياة بالذهب؟ إن الذي جعل الوقت من ذهب بخسه حقه؛ فالوقت في حياتنا هو كل شيء، وإن كنّا لم نعتبره بعدُ شيئًا، وأعتقد أننا في اللحظة التي نقدر فيها أوقاتنا، ونعرف كيف ننفقها فيما يتفق مع قيمتها، ويتناسب مع قدرها نصبح أرقى الأمم وأسعد الشعوب؛ فهل يقدر هذا لنا نحن الذين ضبط لنا الإسلام الأوقات ضبطًا ليس أدق منه ولا أروع، وجعل للذين يراعون الشمس والقمر منزلة في الجنة؟
تعالوا يا أحبائي نرَ الذي استفدناه لأنفسنا أو لأمتنا خلال عام كامل مضى بدقائقه وساعاته وأيامه ولياليه،
* هل اهتدينا في رمضان الماضي إلى أسلوب صحيح من أساليب تربية النفوس، وتطهير الأرواح، وتزكية الأخلاق؛ فحرصنا عليه، ونهجنا نهجه حتى جاء رمضان هذا العام، فإذا نحن أزكى نفوسًا، وأصفى أرواحًا، وأطهر أخلاقًا من ذى قبل؟
* هل تمكن قطر شرقي إسلامي خلال هذا العام من فرصة سانحة كسر فيها القيود والأغلال، وخلص مما هو فيه من الويلات، واندفع في طريق الترقي والكمال؟
* هل وفقت حكومة إسلامية أو زعامة شرقية إلى وضع ناموس اجتماعي يوقف تيار هذا الفساد الخلقى والاضطراب الاجتماعي والألم النفسي الذي يشمل كل مرافق الحياة، وكان له في النفوس أسوأ الأثر وأعظم الضرر؟
* هل أجلى خصم من خصوم الإسلام عن ديار الإسلام؟ لا.
* وهل عادت أحكام الإسلام وتعاليم الإسلام في أمة من الأمم كما يريد الإسلام؟ لا.
* وهل صلحت أخلاق أبناء الإسلام كما يريد الإسلام؟
* وهل أخذ المسلمون بأحكام القرآن الكريم، وطالما سمعوه ووعوه، وهم يعلمون أنه أساس الإسلام؟. لا.
إذن لم يَجدَّ علينا جديد نُسَرُّ به ونفرح له، ولا زلنا في موقفنا حيث نحن كما كنا منذ عام، وإذا استمر الحال على ذلك لم يزدنا مَر الأيام إلا تأخرًا، وذلك ما يذيب لفائف القلب لوعة وأسى.
ولئن كان التفريط في الماضي جريمة فإنه في المستقبل أشد جرمًا وأكبر إثمًا، فهيا يا أبناء الإسلام ننتهز فرصة رمضان الجديد لنتجدد.
تجددوا يا شباب الإسلام، اخلعوا هذه النفوس الرثة البالية الخليقة الماجنة الطاغية الكاسية الضعيفة الناعمة الغارقة في الأمانى والشهوات، واستبدلوا بها في رمضان الجديد نفوسًا أخرى جريئة في الحق، شاعرة بالواجب، مقدرة للأمانة، كلها فتوة وهمة وقوة، ونزوع إلى المعالي، وعزوف عن الصغائر، وطموح إلى المجد الذي خلده الله لكم في كتابه؛ إذ يقول: ((للهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)) (المنافقون: 8).
جددوا أنفسكم، وزكوا أرواحكم، واستعينوا بالصلاة والصيام والطاعة والقيام، وجددوا توبة نصوحًا تُرضى ربكم فيرضى بها عنكم، واحذروا أن يمر بكم رمضان فلا تصقل به النفوس، ولا تزكى به السرائر ولا تطهر به الأرواح.
وليس بجميل أن ينادى منادى الحق – تبارك وتعالى – وقد جاء رمضان: “يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم”؛ فلا يبادر المسلمون إلى الإجابة، ولا يسارعون إلى تلبية الداعي البر الرحيم.
إنه شهر مناجاة وروحانية؛ ولهذا أوثر أن تخلو بنفسك وتستجوب أصداء حسك في خلوة من ليل أو نهار؛ فتسأل نفسك عن واجبها نحو ربها ودينها وأسرتها وأمتها ووطنها وقرابتها، وإلى أيّ حد قامت بشعب هذه الواجبات وفروعها، وثق بأنك ستفهم عن نفسك في هذه الخلوة الربانية أكثر مما تفهم عني، ولو كتبت لك أضعاف هذه الصفحات.
وثق يا عزيزي أن العلم الصحيح إنما ينبع من الروح، ويفيض من القلب، ويتفجر من جوانب النفوس الزكية المشرقة؛ فكن عبدًا ربانيًّا معلَّق القلب بالله؛ تره يملأ نفسك بهجة وسعادة، والله ولي توفيقنا وتوفيقك إلى ما يحبه ويرضاه.
———————
المصدر: مقال للإمام حسن البنا، نشر فى مجلة الإخوان المسلمين، السنة الثانية، العدد 32، بتاريخ 6 رمضان 1353هـ – الموافق 13 ديسمبر 1934م.

محرر الموقع