د. محمد المجالي
قرأت كيف أن التتار كانوا على أبواب بغداد، وكان أتباع المذاهب فيها مختلفين حول الجهر بالبسملة في الفاتحة، إلى درجة تقاذف الأحذية فيما بينهم، وما هي إلا أيام حتى دخل التتار، وما قرؤوا البسملة ولا الفاتحة، لا سراً ولا جهراً.
لا أجد شيئاً أضر على الأمة الإسلامية من سهولة انقسامها وافتراقها وتعصبها، استجابة لنداء الشيطان، وتلبية لنداءات الأهواء وتعظيم الأشخاص وآرائهم، حتى غزا هذا الداء أفكار الملتزمين دينياً، مع أن من تعاليم إسلامنا العظيم أن ندور مع الحق حيثما دار، وأن نعرف الرجال بالحق لا أن نعرف الحق بالرجال.
يؤلمنا حقاً هذا الانقسام الذي نجده، على مستوى الدول الإسلامية، حيث التناحر والعداوة بينها، وهذا المكر الذي يسير به كثيرون ضد بعضهم، ويذكرنا هذا كيف ضاعت الأندلس حين كان ملوك الطوائف، ووالوا أعداء الأمة حينها، واتفقوا معهم على بعضهم، فكان الولاء لغير الله تعالى، فكانت الهزيمة لهم جميعاً، فمن يتخذ ولياً من دون الله فهو قطعاً من أهل الأهواء، وهو بنص القرآن منافق ومن الظالمين.
حتى هذا الانقسام بين المسلمين شعوباً وجماعات، حين تسير الشعوب وراء دولها من دون تمحيص للرأي وعرضه على قواعد الإسلام العظيم، وحين تفرقنا السياسة وهي غالبا ليست صحيحة، نراها بعين العقل وكامل البصيرة بأنها مسيَّرة لخدمة أعداء الأمة، ومع ذلك نجد من يسوغها، بل يعطيها الدليل الشرعي، وهذا كله هدر لكرامة الإنسان، ومصادرة لحريته عموماً، خاصة قناعاته وفكره، فالله خلق العقل ليفكر والعين لتبصر، لا بأن نعطل حواسنا وتفكيرنا ونسير بلا دليل عقلي مع الدليل الشرعي على هدى من أمرنا.
ديننا يأمرنا بالوحدة والأخوة، وما كان المسلمون في تاريخهم دعاة لفرقة، ولا عنصرية أو إقليمية، فرسولهم محمد صلى الله عليه وسلم جمع أطياف الناس حوله، وكلهم مكرّمون، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، ويقول الله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، فالتقوى هي ميزان التفاضل، وهي التي ترفع قدر الإنسان عند الله، ومنها نأخذ درساً واضحاً في شؤوننا الدنيوية، أن قيمة الإنسان بما تعلم وأبدع وتخصص، كائناً من يكون، من دون تفعيل للفرز حسب الجاه واللون والعرق، فقد جمعنا الإسلام كما قال الله تعالى: “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون”، وقال: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”.
والعجيب الذي يعكس حالة المرارة والنكد أن يكون الخلاف بين جماعات إسلامية رفعت شعار نصرة الإسلام، وقناعتي أنها -إن صدقت النية واتبعت الإسلام- فإنها تكمّل بعضها وإن اختلفت مناهجها، فهناك ضوابط عامة لا بد من توفرها، حيث الاتباع الصحيح لهذا الدين، ومراعاة اختلاف التنوّع الذي يثري المسيرة، فلا يمكن أن يكون الناس على رأي واحد، وهذا أمر أقره الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم. أما أن يكون الشقاق والتناحر والكيد والمكر، فلئن كان هذا في مجال السياسة والمصالح الدنيوية، فليس مسموحاً به أن يكون في مجال الدين، ويعنيني هنا دائرة أهل السنة على وجه التحديد.
إن الخلاف مشتت للجهود، ومسبب للتناحر والتباغض، فالمسألة جد خطيرة، ولا يمكن أن يكون هناك سبب لها إلا اتباع الأهواء، وسفاهة الرأي، وحماقة السلوك، وتعظيم الأشخاص، حين ينشغل هؤلاء بأنفسهم وهم إخوة الأمس، على حساب وحدتهم وبالتالي وحدة المجتمع الإسلامي بل الأمة الإسلامية.
كنت أظن أن الطغيان والطواغيت موجودون في دائرة الكفر فقط، ولكننا نكتشف أن هناك طغيانا باسم الإسلام، وديكتاتورية عجيبة باسم الطاعة والاتباع، ويدفع الجميع ثمن السكوت وعدم النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحق أبلج والباطل لجلج، وإن رأينا التخبط والتراجع والهزيمة في دائرة أتباع الإسلام، فالجواب أن سنن الله تعالى لا تتخلف أبداً، فلم ننصر منهج الله حقاً، ولم نكن على مستوى الطاعة المطلوب حقا، فهذا الدين عزيز، لا ينتصر إلا على أيدي أناس عظّموا الله وأطاعوه ونصروا دينه، وصدق الله العظيم حين يقول: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”، ويقول: “ولينصرن اللهُ من ينصره، إن الله لقوي عزيز”.
إن من سنن الله تعالى أن يدافع عن المؤمنين: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوّان كفور”، وأنه يهدي من يجاهد في سبيله وهو مع المحسنين: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبُلَنا، وإن الله لمع المحسنين”، وإن كان غير ذلك فلا بد أن نتهم أنفسنا ونراجع وسائلنا وغاياتنا ونياتنا، وهل أخذنا بالأسباب كما ينبغي أم هو مجرد التواكل: “أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم”، “وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير”. فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، ودين الله عزيز عليه لا بد له من تضحيات وبذل، ولا بد أن نتخلص من حظوظ أنفسنا وننسلخ منها، لنلتف مع هذا الدين ولاءً وحباً وعملاً وانقياداً.
لقد وعد الله تعالى في كتابه المؤمنين بأن لا يجعل للكافرين عليهم سبيلاً: “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً”، وهي من الآيات المبشرة عموماً، والمطمئنة للمسلمين، فغلبة الكفر أحياناً لا تعني الديمومة فالأيام دول: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، ومداولتها بناء على الالتزام أو الانفلات، ومرة أخرى، فأهم عوامل الالتزام هو الطاعة لله تعالى، ومنها هذه الأخوة، وهذه الوحدة التي ينبغي أن نعيشها وإن كانت بعض الخلافات البسيطة الطبيعية التي يعذر بعضنا بعضاً في شأنها.
نتألم كثيراً حين نرى العالم يضحك منا، يقتلنا بأيدينا، ويسرق خيراتنا، ويفرقنا ويؤجج نار الحرب بيننا، ونحن نملك كل مقومات الوحدة، دينا ولغة وثقافة وعرقاً، ولو لم يكن إلا الدين لكفى، في استشعار عظمته وبركته.
هي دعوة لكل غيور على أمته أن يبذل المستحيل في سبيل هذا، فقد وحدنا الإسلام بأركانه وأصوله، نقف معا في الصلاة، ويعطف بعضنا على بعض في الصدقات، ونطوف معاً حول البيت وهكذا، فالفهم الفهم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ننخدع بالمظاهر، ولا نُلدَغ من جحر واحد مرتين.
الغد الأردنية