زهير سالم
ماذا علينا في المسلم تستبد به بشريته فيزلّ، أو يخونه اجتهاده في أمر الدين أو في أمر الدنيا فيسيء الاصطفاف؟
ماذا علينا في المسلم المتبوع الذي هو محل العلم والرؤية والفتوى؟ وماذا علينا في المسلم التابع الذي يسمع كلاماً من صاحب علم، يظن فيه خيراً، فيتابعه عليه؟!
سؤال يفرض نفسه بإلحاح على أجندة الناس، ونحن نتابع انتشار حالة من التراشق الحاد بين “المسلمين” بسبب كل اختلاف، وبسبب أي اختلاف على كبير الأمر وصغيره على السواء..!!
إن أبعد طرف من أطراف الاختلاف طرف لا يسوّغ الاختلاف، ولا يقبله، ولا يجد فسحة فيه لا في فقه ولا في فكر ولا في اجتماع ولا في سياسة؛ وحتى هذا الطرف من ذوي الكلالة يجب على الآخرين أن يحتملوه ويرفقوا به، ويوسعوا له في مجلسهم.
نتابع واقع المسلمين يسلقون بعضهم بألسنة حداد، تستحل من حرمات الله، أكثر وأكبر من المنكر الذي يجيّش المجيشون – يزعمون- لإنكاره واستنكاره. وإعلان الغضب على صاحبه أو على أصحابه؛ في غيرة مدعاة على دين الله تنبت في سبخة العماوة والجهل، أو سبخة الخبث والكيد والنكد.
يتجلى الأمر حين يكتشف المسلمون أن بين ظهرانيهم، خطّاء، يغلبه هواه أحياناً أو في بعض الأمر فينزل على حكم بشريته الطينية فيُلم تارة، ويتجاوز اللمم أخرى إلى ما هو أعظم منه وأفحش..
أو حين يختلف المسلمون في فقه شعيرة من شعائر الإسلام، في ثبوتها أو في طريقة أدائها أو في ظرف الأداء؛ فيراها بعضهم نسكا وقُربة ويصمها آخرون بأنها إحداثاً وبدعة..
أو حين يتجادل المسلمون في قضية من قضايا علم الرواية أو الدراية أو التفسير أو التجديد، أو القطعي أو الظني..
أو عندما يختلف المسلمون في تقدير موقف في قضية قد تبدو لكثير من العقول جلية واضحة لا مِرية ولا لُبس فيها؛ ولكنها تلتبس على بعض العقول حتى يبدو أحدهم فيما يتلجلج فيه من أمر الباطل كالذي اغتالته أو اجتالته الشياطين فهو يتخبط في حبالتهم، ويحسبون أنهم مهتدون.
وابتداء نقول إن كل هذا يمكن أن يكون في مجتمع مسلم، ويمكن أن يصدر عن مسلمين لا ينبغي أن تحول زلاتهم، وخطاياهم، وتلجلجهم واضطرابهم إلى نبذهم عن رحبة الإسلام، وسواد الجماعة، ولا ينبغي أن تهدر حقوقهم في وجوب الصون ودوام النصح والدعاء بالتوبة أو الفيئة. وإنه لمن الخطأ كل الخطأ أن تبنى تصورات الناس ولا سيما جيل الشباب منهم، على أن المجتمع المسلم أو الجماعة المسلمة أو تجمع المسلمين هو عالم من الملائكة يمشي على الأرض . إن المعنى المباشر لقولنا إن العصمة لا تكون إلا لنبي هو أن غير النبي من عالم أو داعية أو مجاهد أو صاحب صلاة وعبادة يصدر عنه الخطأ ويتلبس بالخطيئة ويبقى دائما وخير الخطائين التوابون.
إن ازدواجية التربية على المثالية المطلقة لرسم أنموذج الأسوة الحسنة يجب أن تتوازن بشكل كبير مع واقعية الطبيعة البشرية حتى يخرج أنموذج الحياة الإسلامية والمجتمع المسلم من ازدواجية الظاهر والباطن التي تفضح حياة كثير من التجمعات البشرية التي تبنى على الزيف والادعاء.
إن التكرار المثالي لحقيقة “كل بني آدم خطاء” وتركها في فراغ عائم لا يساعد على بناء تصورات (جمالية – واقعية)، تجعلنا ندرك حقيقة التحديات الفردية والجماعية التي يعيشها البشر، حتى أولئك الذين يشدون الرحال إلى الله ووفق منهجه ودينه.
نقرأ كثيراً في كتب التراجم، فنجد أكثر المترجمين قد انشغلوا بذكر المآثر والفضائل، وغضوا الطرف عن كل ما ينتمي إلى الجبلة والطين والثقل؛ ولعل من حقنا أن نظل نتساءل: تراهم هل أصابوا أو أخطؤوا؟!
حكاية الصحابي الذين كان كثيراً ما يؤتى به وقد شرب الخمر، ثم يتجرأ أحد الأصحاب على لعنه لكثرة ما يؤتى به؛ أي درس تعلمنا؟!
أولاً – شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له: ” أنه يحب الله ورسوله”.. ركّبوها أو زاوجوها كيف شئتم: مدمن خمر يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله!! أظن أن ارتفاع قنطرة عقولنا لن تساعد على عبور هذا الجمل أو هذه الجملة: كيف نصف رجلاً ما أكثر ما يؤتى به شارباً للخمر فيصفع ويرقع بالنعل ونحوه إنه: يحب الله ورسوله.. قضية تستعصي بلا شك على العقول المسطحة ذات البعد الواحد، التي لا تكاد ترى في كل ألوان الحياة إلا الأبيض والأسود.
ثانياً – قول الرسول صلى الله عليه وسلم لجماعة المؤمنين عن هذا الصحابي الكريم محب الله ورسول: “لا تعينوا الشيطان على أخيكم.” يقولها الرسول الكريم نهيا جازماً لمن لعن شارب الخمر لكثرة شربه، وليترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيها عاماً مستداماً، في كل موقف وفي كل لحظة وأمام كل حالة؛ لا تكن في صف الشيطان ضد أخيك… فتدفعه بأي شكل من أشكال الدفع إلى التمترس وراء خطئه أو خطيئته، بل اترك له الباب مواربا ليعود وردد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه: لعلك.. لعلك.. لعلك.. أو قل كما قال صلى الله عليه وسلم في الغامدية : لقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم. أو تذكر حسنات هذا الذي تراه في وحل الزلل: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وفكرة “بشرية المجتمع المسلم” و”بشرية مجتمع المدينة الأول” تحدث عنها المفكرون المسلمون كثيرا، ولكنها ظلت فكرة عائمة في فراغ. واليوم وأمام استحقاقات عملية تواجهها المجتمعات المسلمة في انكشافات فردية في شأن خاص أو فردية جماعية يحدث من الفتنة ومن اللجلجة ومن الارتدادات السلبية الأمر الكبير؛ نتيجة لغياب هذه الحقيقة عن النفوس والقلوب والسلوك أيضاً.
إن ظهور الخلل في صفوف الجماعة المسلمة، الخلل الفردي من خطأ أو خطيئة، يؤكد بشرية هذه الجماعة وواقعيتها تأكيداً شهد به من قبل كتاب الله تبارك وتعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ….”
فعلى ثلاث مراتب من الخيرية الربانية: وراثة الكتاب – والاصطفاء الرباني – والإضافة المحببة في لفظ “عبادنا” يتربع ثلاث طبقات من المسلمين فيهم السابق بالخيرات بإذن الله، وفيهم المقتصد، وفيهم الظالم نفسه؛ فأي إضافة جليلة أن تعلم أن ظالما لنفسه يكون من : 1 عباد الله- 2 المصطَفين- 3 ورّاث الكتاب .. ؟!
وحين يخبرنا القرآن الكريم أن في ورّاث الكتاب المصطَفين لحمل الرسالة ثلاثة أصناف من الناس : سابق بالخيرات، ومقتصد، وظالم لنفسه؛ علينا أن نطامن كثيراً وليس قليلاً من غرورنا وادعاءنا وعجبنا وأن ننفخ كثيراً في الرغوة والزبد يطفو على أشداق “المتفيهقين” وانتبه من فهق نقيضة فقه.
بل ربما يسبق الإنسان في مضمار من مضامير الخير ويكعّ في سواه.. فهو سابق وهو مقتصد وهو ظالم لنفسه في الوقت نفسه..
ثم إن مبنى هذه الأخطاء والخطايا في حياة المسلمين على الستر والصفح والمغفرة، وليس الإشاعة والتشهير، لتشيع الفاحشة ويستطير شرر النار؛ إلا أن يكون في الأمر دعوة إلى فتنة أو زلل يبقى التحذير منه واجباً، لكي لا يلتبس أمر على مسلم. والتحذير من الفتنة ودعاتها يحتاج إلى البصر والبصيرة وإلى مبضع الجراح وليس إلى ساطور الجزار.
ودائماً ليس للإنسان قول في الدوافع والنوايا، والله وحده هو الذي يعلم المفسد من المصلح. إلا أن يستطير الشر ويستفحل ويخلع الشرير الربقة ويمعن في الختل والكيد.
ويبقى الضابط الأخير والتعليم الأول: لا تعن الشيطان على أخيك. وكان الصالحون من سلفنا إذا سدوا الطريق على المجادل ووجدوه ممعنا في لجاجته وعناده قطعوا الطريق عليه بإغلاق باب الحوار لئلا يستزلوه أكثر. وكانوا إذا شعروا أن المدعو إلى اليمين سيحلفها غموساً في ساعة لجاجة أعفوه من اليمين إعظاماً لاسم الله وشفقة على المسكين الذي تتايع في ضعفه البشري حتى لا يرى..
لا تعن الشيطان على أخيك فتدخله في فضاءات التحدي والمكايدة والاستزلال والاستجرار إلى ساحات اللجاجة والعناد، وإن كنت ولا بد قائلاً فقل لأخيك كما قال الأول:
أنت عيني، وليس من حق عيني.. غضُّ أجفانها على الأقذاء.