حسن البنا
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ (يوسف).
كذلك مضت سنةُ ربك من قبل ومن بعد.. ما صدع أحدٌ بالحق وجهر به، ودعا الناس إليه إلا أوذي، والعاقبة للمتقين والنصر للصابرين.
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة).. ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾ (الحج)، ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)﴾ (العنكبوت)، وسبحان من قسَّم الحظوظ، فلا عتابَ ولا ملامةَ، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى: من الآية 7).
تلوت هذه الآيات جميعًا، واسترسل بي التفكير، وتداعت إلى نفسي المعاني، يأخذ بعضها بعجز بعض، وانتقل الخاطر من الآيات إلى العظات، ومن الحاضر إلى الغابر، وتكشَّفت صحائفُ التاريخ، فلمحتُ في ثناياها المشرقة أئمة الفقه الإسلامي الأربعة: أبا حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنهم جميعًا، أولئك الذين مهَّدوا للناس سبُل الفقه، وعبَّدوا طرائقَه للسالكين، وكانوا في الناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، ومع هذا لم ينجُ أحدهم من محنة في سبيل الحق، كانت له منحةً ولا شكّ.
عُرض القضاء على أبي حنيفة مرتين، وهو يعلم أن استقلال القاضي حينذاك قد يهدِّد بتدخُّل الولاة ورأي الخلفاء، مع أن القاعدة العامة يومئذ أن منزلة القاضي من السموّ بحيث لا تنال منها رهبةٌ ولا تؤثر فيها رغبةٌ، وكان لأبي حنيفة في الدولة رأيُه فلم يشأ أن يقبل، وألحَّ أبو جعفر وأصرَّ أبو حنيفة، وأقسم الخليفة فأقسم الإمام، وانتقل الأمر إلى التهديد والوعيد، فلم يفعلا شيئًا أمام عزيمةٍ أقوى من الحديد، وضُرب الإمام أكثر من مائة سوط حتى سال الدم على عقبيه وهو ثابتٌ لا يلين، وحُبس حتى مات في محبسه أو أُخرج منه واعتُقل في منزله لا يُفتي، ولا يجتمع الناس عليه، وهو على موقفه الأول، وجاءته أمه تعاتبه وتقول: “يا نعمان، إن علمًا ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيقٌ بك أن تنفرَ عنه”، فقال: “يا أماه لو أردت الدنيا ما ضُرِبت، ولكن أردت وجه الله وصيانة العلم”.
وسئل مالك عن طلاق المكرَه- وهو يعلم ما يقصد السائل، وأنه يسأل عن يمين البيعة يُكرِه الوالي عليها الأمةَ، فلا تجد مخرجًا إلا اليمين هربًا من العذاب الأليم- فقال: “طلاق المكره لا يقع”، وغضب الوالي لفتوى الإمام، وأحضره، وحاول أن يثنيَه عن عزمه، وأنَّى له، فأمر به فضُرب مائة سوط، وجُذب جذبًا عنيفًا حتى خلعت كتفه، وطيف به في الأسواق وهو يقول مع هذا كله: “طلاق المكره لا يقع”.
واتُّهم الشافعي رضي الله عنه في اليمن بانضمامه إلى حزب الطالبيين وشغبه على حكومة الرشيد وإمامته، فأُحضر من صنعاء إلى بغداد بالسيف والنطع، وأُعدم قبله تسعة وكان هو العاشر، ومع هذا لم تهُن عزيمتُه، ولم تلن قناته، ولم يذهب الخوف بلبّه، وأثبت الحق لنفسه حتى فاز بإعجاب الخليفة به، وتقريبه إياه، وسلم العلم والفضل بسلامته.
وحاول المعتصم أن يظفر من الإمام أحمد بن حنبل الشيباني بكلمة تُوافق رأي الخلافة ومذهبها حين ذاك، والإمام حيث هو وقَّاف عند كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- منكِر لكل ما يسمع عداهما لا يتحوَّل ولا يتردَّد، وضُرب حتى غُشي عليه، وسُجن في بيته لا يتصل بأحد، ولا يتصل أحد به، حتى فرَّج الله عنه، فلم يكن خصومه معه إلا على حد قول القائل:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ومن قبل ومن بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مضت وتمضي سنة الله العلي الكبير ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد).
فاللهم إن كان بلاءً في مرضاتك وفي سبيلك فمرحبًا به وأهلاً، ولك العتبى حتى ترضى، وما لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي، وعافيتك بعد ذلك أوسع لنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأنتم أيها المجاهدون العاملون لدعوات الحق اليوم وغدًا.. هذا نبأٌ من الأمس ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 90).