زهير سالم
انطلقت ثورات الربيع العربي متتابعة متعانقة مع بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين.
كانت هذه الثورات في جملتها رفضاً لحالة من المهانة تفرضها على شعوب هذه الأمة زمر وظيفية كرست نفسها لإخضاع هذه الشعوب ودفعهم في مسارات الإخفاق واليأس لمصلحة مشروعات خارجية مستعلنة ومسيطرة.
وكانت ثورات الربيع العربي في المقابل تعبيراً عن توق مكبوت في ضمير هذه الشعوب طلباً للحرية والكرامة والانعتاق، وحرصاً على الانغماس في المضامير الإيجابية الحضارية في ميادين التنمية والإبداع.
تؤهل الخلفية الحضارية للشعوب العربية شرق المتوسط وجنوبه باعتبارها المؤسسة للحضارة الإنسانية في مصر والشام وبلاد الرافدين إلى لعب دور مؤثر في مسيرة الحضارة المعاصرة، وهو دور غير مرغوب فيه من الذين يظنون أن الموقف الحضاري قابل للاحتكار!!
لن ندخل في جدلية لفظية حول حقيقة هل أجهض الربيع العربي؟ وهل تمكن أعداؤه منه؛ فعلى المدى المنظور على الأقل يبدو أن الأمر قد حسم؛ في بعض الدول بأسلوب ناعم كما حصل في تونس حيث تم احتواء قوى الثورة وتطويعها في إطار منظومة الفساد والاستبداد. أو تمت الكرة على هذا الربيع بقبضة قوية منظمة كما حصل في مصر، وأدخلت كل من ليبية وسورية واليمن في دوامة من صراع الإنهاك الذاتي مبالغة في استنزاف فتوة هذه الشعوب لإحكام الطوق عليها بطريقة أكثر قسوة من ذي قبل.
والأكثر خطراً أن الموجة الممتدة المضادة لروح الربيع العربي امتدت في إطار هذه الهجمة إلى دول كانت تعيش حالة من المهادنة مع عقيدة الأمة وثقافتها لتصبح أساليب المستبدين من سجن وتعذيب واغتيال بعض أدوات أنظمة كانت تتوفى أن تعرف بهذا!!
إن السؤال الأخطر الذي يواجه شعوب هذه الأمة في تحفزها لاستئناف سعيها الذي لن ينقطع لتصل إلى مبتغاها في عيش حر كريم هو: من أجهض ثورات الربيع العربي؟ وكيف؟ وما هي حقيقة المعركة التي خاضتها شعوبنا والتي يجب عليها أن تخوضها، لا شك أن المراجعات الذاتية أمر مهم ومطلوبة.
لا بد أن تدرك القيادات والجماهير أين أخطأت هي، وما هي الأخطاء التي وقعت فيها ضمن سلسلة من الاختيارات الصعبة أو الضرورات الملجئة حتى وقع الربيع العربي فيما وقع فيه. ولكن المراجعات المهمة والمطلوبة شيء وعملية جلد الذات أو تدمير الذات، والتشكيك بإمكانيات الانتصار شيء آخر.
نعم لقد ارتكبت القيادات السياسية والثورية الجماهيرية أخطاء كبيرة، ولكن أي من الأخطاء تلك لم يكن كافياً لإحباط الثورة وإجهاض ربيعها؛ غير سبب واحد جدير بالتأمل والمراجعة والتصحيح. وتلافي هذا السبب في أي جولة قادمة سيضع ثورات هذه الشعوب في أفق من الصراع جديد يبدو أن عليها أن تعيد كل الحسابات لتتلافاه.
الخطيئة الكبرى في ثورة ربيعنا العربي افتراض بَعضُنَا خطأ أنه بالإمكان أن يجد داعماً حقيقياً كما وجد الخميني داعماً لثورته ضد الشاه!! أو كما وجدت المعارضة العراقية التي هي امتداد لنظام الخميني الدعم المبالغ فيه ضد صدام حسين.
الحقيقة التي يجب أن نخلص إليها هي أن التحرر من استبداد وفساد حكم العسكر ممثلين بوجوه الخيانة والعمالة والفساد والتوحش في كل من تونس ومصر وليبية واليمن وسورية يعني فيما يعنيه التحرر من ربقة النظام العالمي المؤسس على فكرة الهيمنة والنفوذ والاستعباد والاستلحاق؛ فكيف يصلح أن تؤسس لثورة تعتمد بها بسذاجة على من تثور عليه.
كان هذا درسنا الأوضح في سورية كما في اليمن وليبية كما كان الدرس واضحاً منذ عقدين في العراق.
حقيقة صعبة تضعنا أمام خيارين صعبين:
هل علينا أن نواجه العالم ونقارع الخمسة الكبار مجتمعين أو متبادلين للأدوار لنتخلص من مثل بشار؟!
أو علينا أن ننافسه وننافس الولي الفقيه على دركات العمالة والانخلاع والاستخذاء؟
وبين الخيارين الصعبين تنبثق الخيارات الإبداعية لقوى الثورة الصادقة التي لا تتوقف، ولا تتسمر عند طرق بدائية والتي تعرف تميز بين العناد والثبات، وبين الجمود والحركية التي تتجاوز الحواجز والسدود في إبداعات لحظية تتعامل مع المعطى بروح الحاضر الفاعل يتمتع بصلابة الحديد ونعومة الحرير.