زهير سالم
مرّ على التاريخ الإنساني عهود كثيرة من التوحش والبدائية والظلم. في البدايات كان الظلم فردياً “قابيل يقتل هابيل” ومع نشوء أشكال السلطة الأسرية والقبلية بدأ التأسيس للتخويف وللظلم المنظمين. كان مفهوم السلطة يعني أن يخاف المعتدي الظالم ولكنه لم يطبق كذلك في كل الأوقات؛ بل تحول دائماً مع المتغلبين أصحاب الجور والعسف إلى أن يخاف من يجب أن يأمن..
ثم أصبح التوحش والظلم يعبران عن مفهوميهما على خلفيات مكانية أو عائلية أو عشائرية أو اعتقادية. في مصر الفرعونية مثلاً نشبت معركة بين بقايا أبناء يعقوب الذين جاؤوا مصر في عهد يوسف وبين الفراعنة، وظهر سيدنا موسى النبي لينقذ المظلومين. في اليمن كانت حكاية ذي نواس اليهودي وأصحاب الأخدود من المؤمنين بالسيد المسيح. من قبل كان النمرود وسيدنا إبراهيم. لم تكن خلفيات الصراع بين الظالم والمظلوم دائماً دينية.. فتقتيل الأبناء (الرجال لكي لا يكونوا محاربين معارضين) واستحياء النساء (البنات ليكن مادة للخدمة والمتعة) ظل وما زال سياسة للظالمين حتى أيام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وحتى في عهد هذه المواثيق وعهود رؤساء مثل أوباما وترامب وأولاند وماكرون ظل (الاغتصاب) هو الطريقة المفضلة والمقرة عملياً لعقاب النساء المشتغلات في الشأن العام..
أزعم أن المسكونة – والمسكونة تعبير مسيحي كهنوتي – لم تشهد من التوحش والظلم وتعميم الخوف والتخويف – والتخويف هو المعبر الحقيقي عن مفهوم الإرهاب – مثلما هي عليه في هذا الزمان البئيس، الزمان الذي يقول فيه المتسلط الكبير لعميله: يا حيوان على رؤوس الناس، ثم لا يمنعه ذلك من استمرار استئجاره..
لم تشهد المسكونة عهداً عمت فيه سياسات التوحش والظلم والتخويف والخوف كما هو عليه الحال في عصرنا هذا وعن الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين للميلاد أتحدث؛ وذلك بسببين: الأول هذا التصحر الذي أصاب النفوس البشرية، والذي نشأ عن اعتقاد الناس أن واحدهم وليد صدفة عابرة، وأن الحياة ظرف متاح للاستحواذ والمتعة. وأن الله قد مات – نيتشة – وأنه بموت الله قد أصبح كل شيء مباحاً – ديستوفيسكي – وأن القيم الأخلاقية مثل العدل والظلم والصدق والكذب مجرد قيم برجوازية مهترئة قررها المستضعفون ليدارو بها ضعفهم، ويضحكوا بها على أنفسهم – ماركس -.
خطر هذا التصحر وهذا الخواء لا يتجلى في نفوس كريهة موحشة مثل نفس بشار الأسد والسيسي وحسن نصر الله وقاسم سليماني فقط بل يتعدى هؤلاء إلى نفوس أصحابها أكثر نفوذاً وهيمنة وأكثر خواء وتصحراً مثل بوتين ونظرائه والذين ما زلنا نسمع ونرى منهم المدلهمات على المستويين النظري والعملي.
لقد تابعنا عبر القرآن الكريم حوارات النمرود مع سيدنا إبراهيم، وحوارات فرعون مع موسى وأخيه، وحوارات كل الأقوام الضالين مع رسلهم فلم نسمع واحداً من هؤلاء يتكلم بالغطرسة والفجاجة التي يتكلم بها هؤلاء، ولم نر طاغية يفعل بأعدائه ما يفعله العالم أجمع ممثلاً ببوتين وترامب في سجون بشار الأسد، التي وثق روايتها الشاهد الموثوق الذي فضحهم قبل أن يفضح عميلهم. الأمر الوحيد الذي لم يتهم فيه بوتين وترامب الإرهابيين، هو ما يجري في السجون السورية على أيدي وكيلهم فيها بشار الأسد..
والسبب الثاني لانتشار التوحش والظلم وتعميمه وتعميقه وتجذره..
هو طول أظافر هذا الظلم والفجور وامتداد قرون استشعاره، عبر الأدوات التطورات التقنية الحديثة. فهؤلاء الظالمون اليوم يتابعون الإنسان المظلوم إن قام وإن قعد وإن تكلم وإن صمت. يحصون عليه أنفاسه، ويحاسبونه على مشاعره..في هذا العصر – عصر حقوق الإنسان أقصد – يعرفك الظالم يعرف مدخلك ومخرجك، ومقامك ومقعدك، يعرفك بأناملك العشر وببصمة عينك وبنبرة صوتك. يحسب لك من خلال بطاقتك البنكية من أين اشتريت، وماذا اشتريت، وكم أنفقت على طعامك أو على لباسك… يعرفك أيها المظلوم ويتغافل عن كل ما لشريكه في الظلم، حتى حين، لذلك تسمعونه اليوم ينادي: الصفقة.. الصفقة.. المهم الصفقة، 110 مليارات وليذهب الإنسان وحقوقه وكل خرافات الكتبة إلى الجحيم. كل ذلك لتتحقق سنة الله في الظالمين (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)).
فكرة تراودني في فهم القرآن الكريم هي أن بعض آيات القرآن الكريم يأتي تأويلها في زمن بعد زمن. وأن هذه الآيات تظل مثل الكنز المتلألئ المخبوء يمر بها الناس فيبهرهم لألاؤها حتى يأتي تأويلها فيفهمون بكل الحق والجد معناها..
وأن من هذه الآيات قوله تعالى ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)).
وها هم الناس بعض ثمرات فسادهم يذوقون..