الإخوان المسلمون في سورية

وانتصرت -بعون الله وتوفيقه- ثورة العَصر العظيمة (الثورة الشامية السورية أو ثورة الحرية والكرامة).. بعد أن طَوَت سنوات الدم والقهر، واستمدّت نصرها من الله العزيز الجبّار الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم
تذكير بالبدايات:
اندلعت ثورة الحرّية والكرامة السوريّة، بسواعد الشباب السوريّ، ثم بعقولهم وتدبيرهم ومخزون القهر الذي تفجّر من وفي صدورهم.. فهم كانوا حَصّالة الألم الذي زرعه الطغاة في نفوسهم، فجهدوا أن يصبحوا لشعبهم: الأمل الذي أزهر في أرواحهم، والمستقبل الذي حملوه على راحاتهم، ماضين بثبات، يَغذّون السير نحو الشمس التي ستُشرِق في فضاءات بلدهم.. بِجِباهٍ تُعَانِق السماء، وقلوبٍ تنبض بالإيمان، وبَصائر تخترق خطوط الأُفُق، وشَوْقٍ لتحقيق آمال الآباء والأجداد من الأجيال المضطَهَدة، التي ألهبت ظهورَها سياطُ الجلاّدين الذين تعاقبوا على السجن الكبير المسمى بــ:سوريّة!.. فالظلم المتراكم خلال عشرات السنين، والقمع المقنّن بقانون الطوارئ والأحكام العُرفية، والاستهتار بِقِيَم الشعب والأمة، والاستبداد الذي أفرز أبشع حالات الفساد والنهب والفقر والبطالة، والسطو على مؤسّسات الدولة ومفاصلها الأساسية، والتمييز الفئويّ والطائفيّ البغيض.. كل أولئك وغيره، فجّر ثورةً شعبية عارمة اندلعت منتصف شهر آذار 2011، فبدأت وقتذاك الثورة الكريمة الطاهرة بجمعة الكرامة، ولم تنتهِ –بإذن الحيّ القيّوم- إلا بجمعة اقتلاع الطغيان ورحيل الطغاة وسَحق الاحتلالات.. وإنجاز التغيير الجذريّ الإيجابيّ!..
* * *
تذكّروا: أطفال درعا كانوا مشاعل ثورة الحرية والكرامة
تلاميذ مدرسة، تراوحت أعمارهم ما بين العاشرة والثانية عشرة سنة، اختزلوا في أدمغتهم كلَّ رياحين المستقبل وأحلامه الوردية، وكثّفوا شروقَ شمسه في قلوبهم البيضاء النابضة بالبراءة والمحبّة لوطنهم.. فلم يتلوّثوا بعدُ، بالظلام الذي تعيشه بلادهم منذ أكثر من خمسة عقود، ولا بظلاميّي الحزب الواحد والجمهورية الوراثية.. أشدّ ما رسخ في ذاكرتهم من أسماء: بشار أسد ورامي مخلوف وماهر أسد وآصف شوكت وبثينة شعبان، وغيرهم من عُتاة المجرمين.. فرحوا لفرحة أشقّائهم التونسيّين والمصريّين الذين شاهدوهم على القنوات الفضائية.. شاهدوهم وهم يهتفون: (الشعب يريد إسقاط النظام).. أعجبتهم الفكرة.. فأصبحت –بالنسبة إليهم- واحدةً من الألعاب التي تُعبِّر عما يعتلج في داخلهم، وفي نفوس السوريين المضطهَدين.. أمسك أحدهم بـ (طبشورة) الصف، وكتب على الجدار ما شاهده وسمعه على القنوات الفضائية مراراً وتكراراً: (الشعب يريد إسقاط النظام)!..
لم يمضِ نصف ساعة، حتى كان الطفل الذي كتب على جدار الصف الرابع الابتدائي ما كتب، مع أربعة عشر تلميذاً من تلاميذ صفّه.. محشورين داخل حافلةٍ عسكريةٍ نقلتهم إلى فرع المخابرات القمعية في المنطقة.. وغاب التلاميذ في المجهول.. وغابت قناة الجزيرة الفضائية –التي أحبّوها لتغطيتها ثورتي تونس ومصر- عن تغطية الحدث، ثم أُفرِجَ عن التلاميذ بعد شهرٍ واحدٍ (فقط!) من احتجاجات أهليهم، وبعد سقوط عشرات القتلى والجرحى من صفوف عشائرهم.. أُفرِجَ عنهم، متورِّمي الوجوه والأجساد، يبكون، وينزفون من كدماتٍ تغطي وجناتهم الغضّة، وجروحٍ بليغةٍ في رؤوسهم، وآلامٍ شديدةٍ في مواضع اقتلاع أظافرهم الطريّة.. ويا (للمَكْرُمَة) البشارية، فقد أُفرِجَ عنهم ولم يُعَلَّقوا على أعواد المشانق، مع أنه قُبِضَ عليهم متلبِّسين!، بجريمة الهتاف (بإسقاط النظام).. الساقط!..
* * *
أعوام الغَرْس
على مدى ما يقارب أربعة عشر عاماً، مَغسولةً بحبّات المآقي.. مُتَطَهِّرةً بخفقات القلوب المؤمنة.. مُتَدَثِّرةً بأرواح الأحياء عند ربّهم يُرزَقون.. ومخضَّبةً بشلاّلات الأحمر القاني، ارتوت أرضُ الشام خلالها بدماء أبنائها وبناتها، ونسائها وأطفالها، وشبابها وشيوخها وعجائزها..
على مدى ما يقارب أربعة عشر عاماً، من حياة سورية وتاريخها، ارتقى خلالها السوريون إلى مَجدِهم القادم، وحُرّيّتِهِم المضرَّجة بأغلى ما يملكون، واثقين أنّ جلاء المحتلّ الأسديّ وحلفائه الروس والفرس، لن يتحقّقَ إلا بإرادةٍ لا تلين، وإصرارٍ لا يتزحزح.
خلال أعوام ثورة الحرية والكرامة، امتزجت الآلام بالآمال، وأشرقت النفوس بنور ربِّـها، وانجلت القلوب بصرخات: (الله أكبر)، وتعطّرت جنبات الشام بالدماء الزكية، وتطهّرت الفضاءات بتجلّيات: (لبيكَ يا الله.. لبيكِ يا سوريّة)، وخرجت جموع السوريين إلى ساحات المواجهة السلمية الحضارية، شباباً ورجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخا، دفعهم واجب البذل لعيون الشام، وأمدّهم إصرارٌ على نيل الحرية مهما بلغ الثمن، وتملّكتهم شجاعةٌ لا مثيل لها، جعلتهم يواجهون -بأجسادهم- آلةَ القمع والبطش بكل أصنافها وأنواعها، ثابتين على الحق، متضرِّعين إلى الله عزّ وجلّ وحده، أن ينصرَهم على عدوّهم المحتلّ الأثيم: (ما لنا غيرك يا الله)!..
* * *
ثورة الشام، كانت ثورة”.. لا نُزهة!.. والثورة لا تتألّق، ولا تتعمّق، ولا تنتصر.. إلا بالتضحيات الجِسام، فكلما بُذِلَت الغاليات من الأنفس والأرواح والدماء والأموال والأوقات.. كانت ثمرة الحرية والاستقلال والتحرير والاستقرار أنضج وأحلى وأكثر ألقاً.. لهذا، فقوافل الشهداء تزاحمت للفوز بالجنة، ولافتداء البلاد والعباد بالدم والروح، ولرسم المستقبل المشرق للأجيال الشاميّة السورية القادمة.
* * *
حقائق لا تحجبها أكُفّ المستبدّين والظالمين والمتواطئين
لقد انجلت أعوام الثورة عن الحقائق بلا (ديكوراتٍ) ولا رتوش، ولم تستطع آلة الباطنيين والطائفيين والخونة والعملاء والمنافقين والمتواطئين والمتلاعبين والمناوِرين.. أن تُـخفِيَهَا، ولا لأَكُفّهم المضرّجة بدماء السوريين، أن تحجُبَهَا:
أما رأيتم رَأيَ العين، ذلك الحلف الباطنيّ الطائفيّ، كيف اجتمع على قتل السوريين، وذَبْحِهِم، وانتهاك أعراضهم وحُرُماتهم، ودَكّ مساجدهم ومساكنهم، ونَـهب وطنهم، وإبادة مزارعهم ومَصادر أرزاقهم، وإهلاك حَرثهم ونَسلهم؟!.. هذا الحلف الذي أُسِّسَ بقرونه الشيطانية الأربعة: بشار وشبّيحته، وإيران الصفوية الفارسية، وعراق عمائم الخرافات العدوانية، وحزب المشعوِذ (نصر الفُرْس) اللبنانيّ؟!.. إنها الثورة السورية، التي كشفت طائفية العدوّ وباطنيّته، الذي كان يرمينا بِدَائه ويَنْسَلّ!..
* * *
أما رأيتم بني صهيون، كيف ائتمروا وتحرّكوا وفزعوا، لحماية ربيبهم وعميلهم خائن سورية وغادِرها: نظام الاحتلال الأسديّ، الذي ظهر للناس أجمعين، أنه ليس إلا ذراعاً احتلاليةً ليهود، يبيعهم الأرضَ والعِرض، ويشتري منهم الدعم والتأييد، ليبقى جاثماً على صدور السوريين، قاتلاً لروح التحرير فيهم، مُبيداً لإرادة مواجهة المحتلّ الصهيونيّ الغاشم؟!.. أَبَقِيَ في الدنيا غبيّ أو أعمى بصرٍ وبصيرة، يستطيع أن يواجهَنا بأكذوبة (الصمود والتصدّي) وخُرافات (الممانعة) التي اخترعها الصفويون الفُرس ليوظِّفوها في خدمة المحتل الأسديّ، ليخدعَ بها الحمقى والعميان ومكفوفي البصيرة من العرب والمسلمين.. والقومجيين الحمر والصفر والزرق والسود؟!.. إنها الثورة السورية، التي أسقطت كلَّ أوراق التين، عن عورات الحلف الشيطانيّ ذي القرون العدوانية الأربعة!..
* * *
أما رأيتم هذه اللعبة القذرة التي لعبتها روسية المحتلّة والغرب، وتقاسموا فيها الأدوار والمهمّات، لإطالة عمر خونة الاحتلال الأسديّ المجرم، وحمايتهم من التداعي والسقوط؟!.. فروسية والصين تستخدمان (الفيتو)، وأوروبة وأميركة تتذرّعان بالفيتو، والكيان الصهيونيّ يُنَسِّق بينهم أجمعين، والنتيجة: بقاء الاحتلال الغاشم الأسديّ-الصفويّ-الروسيّ، طوال تلك المدة، ينهش سورية والسوريين، ويُبيد البلاد والعباد.. كيف أمكن للعالَم الذي يُسمّي نفسَه بالعالَم المتحضِّر، أن يسكتَ عن جرائم العصر وانتهاك كل الحقوق الإنسانية للسوريين، وبأبشع صورةٍ عرفها التاريخ؟!.. كيف أمكن لهذا العالَم أن ينام قريرَ العين، مرتاحَ الضمير، مُتفرِّجاً على وحوش بشار وخامنئي وبوتين، وهم يقترفون ما يقترفون؟!.. ليشتدّ فَتكُهُم بشعبٍ أعزل مضطهَد، لا ذنب له سوى مطالبته بالحرية والكرامة؟!.. إنها الثورة السورية، التي عَرَّت المنافقين الحاقدين في الشرق والغرب، وكشفت لعبتهم القذرة، المجلّـلة بالتواطؤ والفضيحة؟!..
* * *
أما رأيتم أنذالَ الغرب الصليبيين وبعضَ الحكومات العربية، وهم يطالبون الضحيةَ التي لا تملك إلا أضلاع صدرها.. بوقف إطلاق النار؟!.. إنها الثورة السورية، كاشفة الفضائح والدسائس، والمُريب من الوقائع التآمرية!..
* * *
أما رأيتم كيف تواطأ الشرق والغرب، على ثوار الشام، للحيلولة دون امتلاك الثورة السورية أسبابَ القوّة، للوقوف بوجه جزّاري الاحتلال البشاريّ-الروسيّ-الفارسيّ!.. فيما غُضّوا الطَّرْفَ عن بوارج روسية الإجرامية، وسفن إيران الصفوية، وشاحنات أوباش العراق الطائفيّ، وناقلات جنود حزب الفُرس اللبنانيّ.. التي لم تتوقف حركتها باتجاه الأراضي السورية وسواحلها، تحمل وسائلَ الموت وأدوات الدمار والعار والجريمة؟!.. إنها الثورة السورية، الفاضحة، التي فضحت همجَ العصر، والشياطينَ الخُرس، وهم يتلوّنون ويُنافقون، ويُشاركون في الجريمة التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية!..
* * *
ثورة السوريين، علّمتهم –خلال ما يقرب من أربعة عشر عاماً من الخذلان والنفاق والتآمر والتواطؤ- أن لا ملجأ لهم إلا الله عزّ وجلّ، ولا حَلّ أمامهم إلا امتلاك القوّة الداعمة الذاتية، وأنه بقدر الإيمان بهذه الحقيقة، وبقدر امتزاجها في نفوسهم وأرواحهم.. فإنّ ساعة النصر تقترب.. أو تبتعد، فالله عزّ وجلّ هو القويّ الذي لا تُستمَدّ القوّة إلا منه، وهو الناصر الذي لا نصر من دونه، وهو الجبّار قاهر طواغيت الأرض، وهو العزيز الحكيم الذي لا ينصر بشراً إلا بعد استكمال شروط نصره، وأول هذه الشروط: العقيدة الراسخة والإيمان المطلق، بأنّ الله سبحانه وتعالى هو –وحده- حامي المظلومين، ورادع الظالمين، وقاهر الجبابرة والأرباب المزيّفين.. يُظهِر الحقَّ ويُبطِلُ الباطل.. يُعِزّ مَن يشاء، ويُذِلّ مَن يشاء!..
* * *
تذكبر وعبرة تاريخية: مَآلات ثورة الحرية والكرامة
في شهر كانون الأول من عام 1989م، عندما سُئلَ الدكتاتور الرومانيّ الشيوعيّ الأسبق (نيكولاي تشاوشيسكو)، الصديق الحميم للطاغية حافظ أسد، عن مصير نظام حكمه بعد زوال الأنظمة الشيوعية من حَوْله، لاسيما في تشيكوسلوفاكيا وبولندا.. أجاب مُستهزئاً: (عندما تتحوّل أشجار البلّوط إلى أشجار تين، يمكن أن تنقلبَ الأوضاعُ في رومانية)!.. لكن بعد أربعة أيامٍ فحسب، كان الدكتاتور (تشاوشيسكو) يُعدَم رمياً بالرصاص، برفقة (السيدة الرومانية الأولى)، على قارعة أحد شوارع (بوخارست) العاصمة، بعد أن زال حكمه الشموليّ الظالم إلى الأبد، بسرعةٍ قياسية، ومن غير حاجةٍ لتحوّل أشجار البلّوط إلى أشجار التين!.. بل لأنها سنّة الله عزّ وجلّ في الأرض، بالظالمين المستبدّين المستعبِدين شعوبـَهُم، وسنّة التاريخ في دورة حياة الأمم والشعوب.. وهي السنّة ذاتها التي اقتلعت طغاةَ الأرض كلهم، كأبي جهلٍ وكسرى وقيصر وهتلر وموسوليني وستالين وبن علي ومبارك والقذافي، واقتلعت مجرمَ العصر الطاغية بشار بن حافظ وحلفاءه وأعوانه وأربابه، فنحن كنّا على يقينٍ لا نشكّ في ذلك مطلقاً:
((.. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)).. (فاطر: من الآية43).
* * *
شمس الحرية في سورية، أشرقت بالفتح وانتصار ثورة السوريين التي تجذّرت في ربوع الشام، مُطرَّزَةً بأرواح الشهداء الأبرار، محمَّلةً بأكاليل الغار، معطَّرةً برحيق دماء الأوفياء.. فانتصار ثورة الحريّة والكرامة –بإذن الله- ستُغَيِّر وجهَ سوريّة، وسوريّة ستغيّر وجهَ التاريخ، هذا قَدَرُ الشام، ولن تستطيع قوّة في الأرض أن تقفَ بوجه القَدَر.. فسنّة الله عزّ وجلّ تقضي بأنّ الباطل زائل، وأنّ الحقّ يمكث في الأرض.. والبرهان على ذلك قادمٌ على كَفّ المستقبل غير البعيد إن شاء الله.. ولنا في المرحلة القادمة –بإذن الله- موعد مع تجذّّر التحرير والحرية، لكلّ الوطن السوريّ، بإنسانه وأرضه وسمائه.. وإرادته.. فترقّبوه!..
((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) (القصص:5).
* * *
الأحد في 7 من كانون الأول 2025م.

د. محمد بسام يوسف